على جمجوم

احداث مصر

جنة العبيط

هذه مقالة أخرى للمفكر المصرى العبقرى الراحل د: زكى نجيب محمود(الذى يبدو أننا فى أشد الحاجة لسخرياته الهادفة هذه الأيام العصيبة من تاريخ مصر فهو لذلك لم يمت) من كتابه “أدب المقالة” الصادر عن مكتبة الآداب بمصر سنة 1947 :”جنة العبيط” : أما العبيط فهو أنا،وأما جنتى فهى أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة،تهب فيها النسائم عليلة بليلة،فاذا ماخطوت عنها خطوة الى يمين أو شمال أو أمام أو وراء،ولفحتنى الشمس بوقدتها الكاوية،عدت الى جنتى،أنعم فيها بعزلتى،كأنما أنا الصقر الهرم،تغفو عيناه،فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه،ويفتح عينيه،فاذا بغاث الطير تفرى جناحيه،ويعود فيغفو،لينعم فى غفوته بحلاوة غفلته.أنا فى جنتى السمح الكريم الذى ورث الجود عن آباء وجدود؛فمن سواى كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذى مسغبة وفاقة؟ من سواى الى حاتم ينتمى،وبهذا العنصر الكريم يحتمى؟ وهل كانت صفات آبائى وأجدادى لتذهب مع الهواء هباء،أم هى تجرى فى العروق مع الدماء دماء؟ هأنذا أحنو على البائس عطفا وان كنت لا أعطيه؛وأذوب على المصاب أسى وان كنت لا أواسيه؛وتبت يدا حاسد يقول ان أصحاب الحاجة عندى يستجدون ولا عطاء،والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء،فقلب عطوف خير للفقير من قرش انفاقه سريع،وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع؛انى أعوذ بالله من انسان يفهم لغة الأحسان بلغة القرش والمليم؛تلك لعمرى مادية طغت موجتها على العالم كله،ولولا رحمة من ربى،ورشاد من قادتى،اكنت اليوم فى غمرتها من المغرقين؛لقد أقفر العالم خول جنتى فلا عطف ولا عاطفة،واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا تعرفها بالرنين لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شىء بالمال حتى احسان المحسن وعطاء الكريم؟ فالقرش والمليمهو معنى الاحسان فى الغرب الذميم،الذى غلظت فيه الأكباد،كأنما قدت من صخر جماد.كم جامعة عندهم أنسأها ثرى؟ وكم دارا أعداها للفقير غنى؟ كم منهم يلبى النداء اذا مادعى الداعى بالعطاء؟ لا،بل ان هذا الغرب المنكود،ليسير الى هاوية ليس لها من قرار اذ هو يسعى الى محو الفقر،حتى لايكون لفضيلة الاحسان عنده موضع! فاللهم انى أحمدك أن رضيت لى الأسلام دينا،وجعلت لى الاحسان ديدنا.أنا فى جنتى العالم العلامة،والحبر الفهامة؛أقرأ الكف وأحسب النجوم،فأنبىء بما كان وما يكون؛أفسر الأحلام فلا أخطىء التفسير،وأعبر عن الؤيا فأحسن التعبير،لكل رمز معنى أعلمه،ولكل لفظ مغزى أفهمه؛استفسرنى ذات يوم حالم فقال : رأيت_اللهم اجعل خيرا ما رأيت_رأيتنى أنظر الى كفى،فيغيظنى من الأصبع الوسطى طولها فوق أخواتها،ولا أحتمل الغيظ،فآتى من مكتبتى بمبراة مرهفة ماضية،وأجذ منها ما طال،وألقى بالجزء المبتور فى النار؛وما هو الا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب،كله أصابع،أصابع فى كتفيه،وأصابع فى جنبيه،وأصابع فى قدميه وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره؛والأصابع كلها من ذوات الأظفار،حتى لكأنها المخالب،أخذت تنقبض وتتلوى،وتنبسط وتتحوى،تريد أن تنال منى لتفتك بى؛فتملكنى الفزع،والرعب والجزع،وكلما أقتربت منى تقهقرتحتى بلغت الجدار،ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار؛ثم رأيت دمائى تسيل دفاقة من اصبعى الجريح،فصحت وصحوت.فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم،وكفارتك صيام عام واطعام ألف مسكين؛ولولا أننا نريد بك اليسر ولا نريد العسر اكان جزاؤك ما لاقى “برومثيوث” عند اليونان فيما تروى الأساطير فقد أراد الآلهة أن يستأثروا بالعلم ونوره، وأراد “برومثيوث” أن يهب الانسان قبسا منه، فسرق من الآلهة شعلة العرفان ليهدى بها البشر.وغضب الآلهة لفعلته،فشدوه على جلمود صخر فوق الجبل،وأطلقوا عليه سباع الطير تنهش كبده كل يوم مرة،فكلما انتهشت له كبدا،بدلته الآلهة كبدا أخرى.فأصابع كفك هى الناس من حولك تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذى يعطى من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب؛والمبراة التى أتيت بها من مكتبتك رمز لضلالك بما قرأت،كأنك “فاويت” غاص فى العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا؛وكنت بمثابة من باع للشيطان طمأنينة نفسه لقاء لغو فارغ لا يسمن ولا يغنى من جوع؛ثم حدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل،فكان جزاؤك عذاب الدارين،فعذابك فى الدنيا دماء تسيل رمزا لما أنت ملاقيه من تعذيب فى النفس أو فى الجسم أو فيهما معا،وعذابك فى الآخرة نار تصلاها وبئس القرار وسيظل الوحش ذو الأصابع ماثلا أبدا أمام عينيك شاهدا عليك بما أحدثته للعباد من فساد،فى عالم فى الامكان أن يكون أبدع مما كان،وأما الجدار الذى سد عليك طريق الفرار،فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه،الا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء.أنا فى جنتى الحارث للفضيلة أرعاها من كل عدوان،لا أغض الطرف عن مجانة المجان،والعلم حول جنتى يغوص الى أذنيه فى خلاعة وافك ورزيلة ومجون؛دعهم يطيروا فى الهواء ويغوصوا تحت الماء،فلا غناء فى علم ولا خير فى حياة بغير فضيلة،دعهم يحلقون فوق رؤوسنا طيرا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل،فليس الموت فى رداء الفضيلة الا الخلود؛انى والله لأشفق على هؤلاء المساكين،جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين،أتدرى ما هى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شىء الا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال،والنساء عندهم يراقصن الرجال،ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال،وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الافك افكا! وأقبح من هذا المجون مجونا؟ وبعد، فهم يتحدثون عن الفضيلة كما أتحدث،لكنها تعنى عندهم شيئا عجيبا؛فان خالطت هؤلاء القوم،فينبغى أن تكون منهم على حذر،لأنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها،والرزائل والفضائل عندهم قد يلبس بعضها أثواب بعض؛سل حكيمهم : ما الفضيلة يامولاتا فى بلادكم؟ يجيبك حكيمهم : انها فى اختلاط الحابل بالنابل! أى والله،لا يختلف عندهم رجل أمسك صيده بالحبال عن رجل أمسكه بالنبال؛ترى هؤلاء وأولئك خليطا واحدا.”خليط” هذه هى الكلمة التى أريد،فهيهات أن تعرف فى أرضهم أين الرعاة وأين الغنم،فكلهم_ان شئت_راع،وان شئت فكلهم غنم؛فى هذا الخليط يقترب النسان من الأنسان،وقد يكون أحد الانسانين ذا لحية وشارب،وقد يكون الآخر حليقا ناعم الخدين أملس الصدغين،وقد يكون فى أقترابهما أن يخز الأول الثانى فيدميه؛لكنه خليط وفوضى،ولن يصلح الناس فوضى لا سراة لهم،ولا سراة اذا عمالهم سادوا.فى هذا الخليط يتصايح الناس بما يجيش فى صدورهم،لا يكم أحد أحدا،لأن أحدا ليس له سلطان على أحد،كأنهم ذباب يطن،لاتملك ذبابة منها أن تسكت عن الطنين ذبابة؛والمطبعة فاغرة فاها تلتقم من الأقلام حنظلها وشهدها،ومن الأفواه حلوها ومرها،لتخرجه للناس صحفا وكتبا؛ان الدولة التى تدرأ عن أهلها السموم،من واجبها أن تكم هذه الأفواه،لكنهم قوم لا يعقلون.أرادت زوجتى فى جنتى أن تستخدم خادمة،فسألتها : اسمك ماذا؟-بثينة ياسيدتى.لكن زوجتى كانت بثينة كذلك،فأبى عليها حب النظام الا أن تفرق بين الأسماء حتى لايختلط خادم بخدوم.وقالت فى نبرة كلها مرارة،ونظرة تشع منها الحرارة : _ستكونين منذ اليوم زينب،أتفهمين؟ _حاضر،سيدتى.وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب،لأنها جاهلة صغيرة،لم تفهم بعد مالفضيلة وما الرزيلة.كلا لا أريد لهذا الغرب اللعين أن ينفذ الى جنتى،ولا لمدنية الغرب أن تفسد مدنيتى؛وانه لتغنينى عن سيارته حمارتى، وتكفينى دون طياراته بغلتى،مادمت عن رزيلته فى حصن من فضيلتى.اكن لكل جنة ابليسها،وابليس جنتى وسواس خناس،ما ينفك يوسوس فى صدرى هاتفا : ياويح نفسك،لقد ضلت ضلالين،ضلالا بغفلتها،وضلالا بتضليل قادتها.

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Friday, March 25th, 2011 في 16:41

كلمات جريدة احداث: , , ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي