أحمد فهمي

احداث مصر

رؤية حول الوضع السياسي في مصر الان

رأي شخصي مطوّل شوية! :
——————-
عندما تبدأ بمقدمات خاطئة لا يمكن أن تصل إلى نتائج صحيحة. ولا يوجد في التحليل السياسي في مصر أكثر من المقدمات – ومن ثم النتائج – الخاطئة. فمثلاً، توجد دائماً أحد المسلمات الخاطئة الحاضرة في الذهن التحليلي، وهي أن رئيس الدولة متحكم في جميع التفاعلات السياسية في مصر وأن المشهد السياسي بالتالي هو من صنعه وإنتاجه. هذا في الحقيقة غير صحيح. فمثلاً لم يكن عبد الناصر – وهو المثال النقي للفرعون السياسي – متحكماً في المؤسسة المفترض أنها قاعدة قوته: الجيش، إذ كانت تحت سيطرة عبد الحكيم عامر. ولم يكن مبارك مثلاً متحكماً في رجال الأعمال والقوى التقليدية (المشهورين فيما بعد بالفلول) كما نحب أن نتصور، بل كان يوازن بين مصالحهم العائلية وشبكات نفوذهم – من خلال كمال الشاذلي ثم أحمد عز – وبين المصالح الأخرى المتعارضة معهم (مصالح البيروقراطية والطبقى الوسطى البيروقراطية مثلاً، فضلاً عن الطبقات الدنيا). ولم يكن جمال مبارك هو حاكم مصر الفعلي كما أشيع، بل كانت نقطة مقتل مشروعه هي محاربة البيروقراطية ومراكز قوتها والقوى التقليدية له ولمشروعه الذي مثل بطابعه الإصلاحي (بغض النظر عن اتجاه هذا الإصلاح) خطراً على المصالح المستقرة لهذه القوى ومصالحها داخل وخارج جهاز الدولة.

وهذا هو نفس المشهد اليوم.

تنقسم النخبة الفكرية في مصر – والنخبة لست كلمة مديح كما هو شائع (!) بل هي مجرد وصف فني technical للأفراد ذوي التأثير في السلطة والمجتمع – إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأول مرتبط بالمشروع الإسلامي ويدور في فلكه سواء الإخواني التنظيمي أو الأيديولوجي غير التنظيمي، والثاني مرتبط بالمشروع السلطوي للدولة وأحلامه تتراوح بين السلطوية الخفيفة إلى الشمولية الثقيلة، والثالث مرتبط بالمشروع الإصلاحي الديمقراطي للدولة والمجتمع (أياً كانت درجته أو مداه أو أيديولوجيته). الأول يعتبر أن ما حدث في مصر انقلاب عسكري كلاسيكي: جيش اغتصب السلطة من رئيس منتخب ديمقراطياً. وهذا تصور خاطئ. والثاني يعتبر أن الدولة الأمنية انتصرت في حربها ضد يناير ومشروعها الإصلاحي في جوهره وحان وقت جني الثمار وإلزام “كل قرد بأن يلزم شجرته!”. وهذا تصور خاطئ كذلك. والثالث منقسم في داخله بين معوّل على تحالف ٣٠ يونيو وقدرته على “تصحيح” مسار يناير الذي اختطفه الإخوان، وبين مقتنع بأن الدولة بدأت بالفعل مشروعاً شعبوياً يقوم على فاشية قومية. والتصوران أيضاً خاطئان.

الواقع يبدو أنه أكثر تعقيداً من كل ما سبق.

الرواية التي يغفلها الجميع، بسبب طبيعة النظرة كلية القدرة omni-potent للدولة، هي رواية أن الدولة/الجيش/السيسي مجرد فاعل من ضمن عدد من الفاعلين وليس متحكماً فيهم ومسيطراً عليهم. وبناء على إغفال هذا الافتراض يتم تجاهل الرواية الرسمية التي قدمها الجيش في تبريره لتدخله العسكري يوم ٣ يوليو، وهي رواية منع الحرب الأهلية أو منع الانفجار الاجتماعي الواسع.

الوضع كالتالي، وبشكل مبسط وبقدر من التعميم:

في مصر ٤ قوى رئيسية، واحدة معها القوة المادية، وواحدة معها الشرعية الأخلاقية، واثنتين معهما القدرة على الحشد. فأما من معه القدرة المادية فهما الجيش والشرطة، دعنا نسميهما الدولة، باعتبار أن التعريف الأشهر والأفضل للدولة هو أنها الجهاز الذي يحتكر استخدام العنف الشرعي legitimate violence في المجتمع. ولكنه العنف “الشرعي” وليس العنف فقط. وهذا يقودنا للقوة الاجتماعية الثانية، وهي النخب المدنية – السياسية والفكرية – وامتداداتهم في الرأي العام وخاصة الشباب وبعض فئات الطبقات الوسطى في المدن. الشرعية مع هذه الجماعة منحوها مرة للإخوان (القوة الثالثة) ضد الدولة في يناير فانهزمت الدولة، ومنحوها مرة للدولة ضد الإخوان فسقط الإخوان. والقوة الاجتماعية الرابعة هي القوى التقليدية: ماكينات الحزب الوطني السابق الانتخابية والتعبوية، مراكز النفوذ المالي والعائلي والعصبي في المدن والأرياف والصعيد، والتي تفرقت وتشتت شملها بعد يناير، ثم عادت في تحالف ٣٠ يونيو مع الجيش وتحت غطاء شرعية القوة الثانية (القوى المدنية).

كانت سنة حكم الإخوان، وبسبب حماقة الإخوان أساساً أو لتقل طابعها البنيوي الطائفي المنغلق، إعلاناً للحرب الباردة بين الجميع ضد الجميع. القوى المدنية وجدت نفسها – عذراً – في الشارع، بعد خدمة الإخوان وتوصليهم للسلطة. والقوى التقليدية التي تصورت أن الإخوان – متزلفي الأمس – سيكونون حريصين على عدم معاداتهم وجدوهم على العكس متعجلين على الاستحواذ الكامل والسيطرة الكاملة بدءاً من الإعلان الدستوري مروراً بالإخلال بالمعادلات غير المكتوبة للتعيينات في البيروقراطية العليا وصولاً لقانون السلطة القضائية الحاسم. النتيجة كانت اشتعال حرب باردة تطورت سريعاً إلى حرب وجود بين القوى الثلاثة.

تحدد للمعركة ٣٠ يونيو: يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضحى. أعطت القوى المدنية الشرعية الأخلاقية اللازمة وقامت كذلك بأقصى ما تستطيع القيام به من حشد (حشد كان حجمه يتطور سريعاً خلال سنة حكم الإخوان مع تفاعل الطبقة الوسطى المدينية مع الشعور بالخطر ورفضها للتيار الديني عموماً وللإخوان خصوصاً). ولكن ذلك لم يكن هو العامل الأخطر. كان العنصر الأكثر حسماً هو قيام القوى التقليدية بتجهيزات لم تكن ربما واضحة للجميع ولكن عرفها جيداً من كان متابعاً بدقة للأمور خصوصاً أثناء شهر يونيو. تجهيزات لا تعتمد فقط على حشود ضخمة في الأماكن البعيدة عن دوائر تأثير القوى المدنية في الأقاليم والصعيد، ولكن أيضاً على استعدادات شبه عسكرية بالرجال والسلاح والاستعداد للقضاء “الشعبي” على الإخوان إن أصر محمد مرسي وجماعته على الاستمرار في الحكم.

كان موضوع بقاء مرسي بعد ٣٠ يونيو – وحتى قبل حلول هذا اليوم بما كشفه عن مشاركة أعداد غفيرة فاقت جميع توقعات المشاركين في الإعداد له – ضرباً من المستحيل. عرض الجيش على مرسي قبل ٣٠ يونيو، وبشهادة الإسلاميين في الاجتماع الشهير لمرسي مع قيادات التيار الديني يوم ٢٩ يونيو، مبادرة لم تتضمن سوى تعديلاً وزارياً وبنود غير حاسمة مرتبطة بالإعلام والقضاء. رفضها مرسي وقال الكتاتني أنه لا يوجد مبرر لهذه المبادرات خاصة وأن ٣٠ يونيو يوم عادي لن يشارك فيه سوى عدة آلاف. تكررت عروض الجيش على مرسي بعد ٣٠ يونيو متصاعدة مع إيقاع المظاهرات الضخمة وغير المسبوقة مقارنة بمظاهرات يناير والاستعدادات التي كانت تجري على قدم وساق “للقضاء شعبياً” على الإخوان وحرق مقارهم ومقار حزبهم ثم محاصرة واقتحام مراكز الحكم في الدولة، وكل ذلك بينما كانت حشود الإخوان متأهبة في رابعة العدوية تنتظر إشارة البدء الرسمي لحرب أهلية حقيقية وآلاف القتلى كمجرد بداية لسلسلة ثأر أهلي لن تنتهي. رفضت جماعة الإخوان تقديم أي تنازل من أي نوع، مراهنةً على شيئين: ١) الجيش لن يتحرك ضد الرئيس مهما حدث، ٢) في حالة امتناع الشرطة عن حماية الإخوان وهو الأمر الذي كان معروفاً أنه سيحدث، فإن حشودهم قادرة على صد أي هجوم شعبي مثلما حدث في الإتحادية في ديسمبر ٢٠١٢ (وهو ما بدأ بالفعل بإطلاق الرصاص الحي أمام مقر الإرشاد في المقطم، فضلاً عن مواقع الاشتباك الأخرى في بين السرايات وغيرها).

بالطبع، لم يتخذ الجيش قرار عزل مرسي لأنه وجد فجأة أن البلد على شفا انفجار اجتماعي مباشر غير مسبوق، وذلك لسبب بسيط يتجاهله من فشل في قراءة الواقع قبل ٣٠ يونيو، وهو أن ما حدث بالفعل في ٣٠ يونيو وبعدها كان واضحاً من شهور أنه محتمل الحدوث بشدة إذا رفض الإخوان تقديم أي تنازل سياسي لمعارضيهم. الجيش إذاً كان مستعداً لهذا الاحتمال كأحد الاحتمالات واردة الحدوث، وانتشر في القاهرة والمحافظات المهمة قبل ٣٠ يونيو بأكثر من اسبوع، ولكنه كان الاحتمال الأخير، لأنه كان دائماً في مقدور جماعة الإخوان بقبولها التفاوض وتقديم أي تنازل أن تشق هذ التحالف الهش ضدها ببساطة. لم يتفاوض الإخوان – ولن يتفاوضوا – وعزَلَ الجيش مرسي لمنع الانفجار أساساً ولإعادة تصميم النظام السياسي من جديد.

بعد ٣ يوليو، وبالذات بعد ١٤ أغسطس، لم يعلُ صوت وسط النخبة المدنية على صوت التحذير من الفاشية ومن عبد الناصر الجديد ومن الشعبوية. كل هذه أشياء سيئة قطعاً تستحق التحذير والانتباه، ولكنها – لسوء حظ من يراهن عليها بأكثر من اللازم – مخاوف لا أساس لها أو irrlevant، لأنها أولاً مرتبطة بافتراض ضمني وهو أن السيسي يريد تأسيس نظام شعبوي أو فاشي، وثانياً أن الظروف مواتية بسبب “فزاعة” الإسلاميين الجديدة وبسبب المزاج الفاشي في الشارع المصري. الافتراضان ببساطة غير صحيحين. فلا السيسي يريد تأسيس نظام شعبوي – وإن استخدم الشعبوية أحياناً وبشكل ذرائعي كوسيلة وحيدة لتعويض غياب التنظيم السياسي – ولا الظروف مواتية بأي شكل لتأسيس حكم فاشي شعبوي وإن أرادوا.

الحاصل بالفعل هو: ١) الصقور في القوى التقليدية – وليس جميعها فمن بينها المعتدلين والمدركين إلى حد ما لضرورات حركة التاريخ والمتعلمين لدروس العامين الماضيين – تريد جني ثمار حربها ضد الإخوان على مدار سنتين. القوى التقليدية لها امتدادات في بعض الأجهزة الأمنية. القوى التقليدية ليست الجيش، وليست تحت إمرة السيسي. هي قوى مستقلة عن الدولة وإن تحالفت معها طويلاً منذ تأسيس نظام يوليو. صقور القوى التقليدية تريد من الدولة أن تقوم بالنيابة عنها بالتخلص من المنافسين السياسيين جميعاً، إخوان وغير إخوان، بدعوى ضرب الطابور الخامس وباقي الأسطوانة المعروفة. وبدأت بالفعل تنشب أظافرها في السيسي وتذكره بأن السبب الأساسي لتدخله المباشر يوم ٣ يوليو كان إدراكه لقدرتها – جنباً إلى جنب مع الإخوان – على “إشعال” الأمور لحد لا تحتمله الدولة. الهدف المباشر هو توريط السيسي في تحالف معهم لا رجعة عنه، في مسار لا بدائل فيه غير المضي قدماً فيه مهما كانت التكاليف والتضحيات والخسائر. والهدف النهائي هو غلق المجال السياسي وقصره على المتنفذين منهم.
٢) القوى الإسلامية – الإخوان تحديداً – لا يملكون في الحقيقة سوى بديلاً وحيداً وهو نزع الشرعية عن المسار السياسي الجديد كله انتظاراً لانهيار التحالف الذي أسقط الإخوان. أيّ قبول للتفاوض من الإخوان دون عودة مرسي يعني انهيار التنظيم فوراً وفي نفس لحظة الإعلان عن قبول “الضيم والدنية من شرعيتهم ودينهم” على حد وصف مرسي في خطابه الشهير. الأمل الوحيد يكمن في انقلاب إخواني داخلي يحظى ببعض الشرعية عند شباب الجماعة ويمهّد لظهور موقف أكثر اعتدالاً.
٣) القوى المدنية، كعادتها الخالدة، متشرذمة بين إعلان المواقف الأخلاقية والمزايدة بها من جانب، والندب والنوح ولعن الزمان الذي خلقهم مصريين من جانب آخر، والتنبيه والتحذير من الفاشية والشعبوية من ناحية ثالثة، والتريقة والمألسة على “المغفلين” كما يعتبرونهم من أمثال الببلاوي وزياد بهاء الدين الذين مدّوا أيديهم محاولين ضبط الأمور بقدر الإمكان وكسروا لأول مرة تابوه الهروب الكبير الذي أدمنه البرادعي المنسحب دائماً وأبداً، ولسان حالهم يقول لمن يقابلوه في الطريق: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. طيب، والله مانتوا قايمين! بس ما تزعلوش لو قلبت ضَلمة وترجعوا تقولوا على طريقة البرادعي، مش قلنالكم! it’s a self-fulfilling prophecy!

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Wednesday, September 4th, 2013 في 01:25

كلمات جريدة احداث: , ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي