انسان

احداث اليمن

من اليمن

.. كادت بقايا ثيابٌ متسخة و ممزقة تنجح في تغطية بعضِ جسده ، بدا هيكلاً عظميا خرج من قبره بعد موته منذ عهد بعيد ، كان يتحرك بشكل غريب ويتحدث إلى نفسه وينظر بلا هدى فعلمت أنه مجنون مثله مثل غيره ممن جُنَ في هذا البلد تحت وطأة الظروف القاسية ولأن بلادي بلد مهين يبقى فيه المجانين يتجولون في الشوارع تأكلهم الشمس والفقر والقذارة والجوع وقسوة الناس الذين لا يأبهون لذلك كانت رؤيته تبدو أمراً طبيعياً .. لكنني لما رأيته كان ثمة كلب يسير بالقرب منه .. وقد بدا الكلب نظيفا وسمينا وصحيحا ، ربما بسبب القمامات الملقاة في الشوارع دائما .. إن ما أذهلني حقا أنني رأيت الكلب والإنسان يسيرون في طريق فكان الكلب يبدو أكثر هدى وكرامة وعافية من ذلك البائس المسكين .. أفليس بلدي بالبلد المهين ..
.. كان بواباً في ثانوية للبنات في بلدٍ حقير يدعى اليمن .. ولقد رأيت هذا الرجل وهو يذوب ويمسي جسده أكثر ضآلة وكآبة وتهالكا بوتيرة مخيفة تزداد كلما ازداد الغلاء في الأسعار فكأن تلك الأسعار المتقافزة كانت تأكل وتتغذى على جسده بلذة حيوانٍ جائع يفترس ضحية ضعيفة..وهو في الأصل رجل فقير وبائس .. ناضلت زوجته للتخلي عنه بسبب الفقر.. وما هذا الفقر إلا جزارٌ نحن نعاجه وكم قتل فينا من شيءٍ جميل وكم سلخ عنا آدميتنا في مرات عديدة .. راقبته وهو يبطش بعم بهلول حتى أمسى مخلوقاً ضئيلاً يكبر بسرعة متزايدة فاقت براعة الزمن ..فامتطاه القهر والانحناء ولم تعد صحته تعينه على العمل .. و بعد ثورة ؟!! كنت أرى عم بهلول يزداد بؤساً وضعفاً وانكسار ..أطرافٌ مرتعشة و عيون غائرة تتحدث عن الموت أكثر من الحياة وكان يظل منتظراً من سيعطيه الحسنة دون أن يتكلم أو يطالب أحداً ، يظل منزويا في ركن ما لا يجرؤ حتى على النظر إلى الأصحاء المستورين وإذا رفع عينه بغتة تراها عيون تدمى بكثير من المذلة والاستجداء والهزيمة ..
وفي يومٍ قريب رأيت عم بهلول في المدرسة يجر قدميه وجسده جراً محزنا كحيوانٍ جريح يهرب من شيءٍ ما إلى الحياة بانهاك وضعف ، آلمني منظره كثيراً، لم أره من قبل بهذه الصورة ، كومةٌ من عظام ذائب أغبر تتحرك بما يشبه الإعاقة .. ثم عرفت أنه قد مات في اليوم التالي.. فعلمت أنني لما رأيته كان الرجل يموت لكنه خرج من بيته وقطع كل تلك المسافة الطويلة ليجمع بعض الحسنات يسد بها جوعه وجوع ابنته … هكذا تصنع يد الفقر والمذلة والهزيمة بملايين من البشر الأكثر ضعفا وفقرا من سواهم .. تلك الطبقة التي لن تقوى على مواجهة الأهوال القادمة من الغلاء الساحق في بلد يحوي غيلان من المليارديرات ومن المتنفعين يُعدون بالملايين من حماة النظام القديم والجديد .. من الناهبين المستحوذين على الأراضي ومختلف الثروات والمصالح يأكلون قلوب الضعفاء حتى تنطفئ .. قلوبٌ عاشت ذليلة و مهزومة ومحرومة .. ذلك الحرمان من الحياة والكرامة .. الحرمان من الشعور كالإنسان .. الحرمان من دفء الأسرة والأمان وحتى من الطعام ..

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Thursday, October 11th, 2012 في 09:07

كلمات جريدة احداث: ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي