انسان

احداث اليمن

رحــــيق بلادي الجنوب العربي

كنا فراشاً يحلق في ربوع الجنوب نلتقط الرحيق من زهور مدينتنا الجميلة ..
اختفت ألواننا ، وأبيض شعر مدينتنا ، وعيينا ندافع عن قضيتنا ، فلم نجد أحداً يصدقنا. ومن ذا الذي سيصدق في هذه الأعوام الأليمة أنها هي ذاتها عــدن .. عدن القديمة جميلة العينين وردية الخدين ، من كانت تبتسم لكل الزائرين فيتساقطون في عشقها بشغفٍ يوشَيه الحنين .. آهٍ لو تعلمون ياأهل العروبة ، ولو أنكم كنتم تشاهدون ، كيف كانت بلادي ، وكيف صنع بها الطغاة وهم ينتشون .. كم كنا ياعرب نتمنى أن تغسلوا عنا حزننا الأليم ، وأن نغني في جنوبنا مثلما غنى عبدالحليم : والعروبة في كل دار وقفت معانا ، والشعوب الحرة جت على اللي عادانا … فوالله إنَ عدن كانت تستحق ألا نفرط فيها هكذا ، وكرامتنا ومستقبلنا وحريتنا كانت أيضاً تستحق …

كانت مدينتنا مدينة الفراشات ، تزورها كل عام ، تحمل في جناحيها كل ألوان الأمل والنور ، نكاد نشبهها .. كنا نلعب معها ونحن صغار ، نشفق عليها ونساعدها ، ذاك أننا أهل الجنوب كنا مثل أرضنا الشاسعة الوفيرة المليئة بالخير والقلوب الكبيرة ، زهورنا البحار ، ورحيقنا صنع من أشعة الشمس الحنونة التي تغوص فيه ، فتحليه ، حتى يصبح ذهبياً حلواً ، يتدفق أمواجاً في الشواطئ ، نرتشف منه متى نشاء ، أحراراً سعداء ، نحلق في أرضنا .. نقيةً كالسماء ، نتقاذف الرحيق بيننا نمازح بعضنا ، نجري عليه ، نتقلب فيه ، يغطينا ، فنضحك حتى تغار منا مآقينا ، فتبكينا من شدة الضحك …
رأيناهم يوماً يتسللون ، يأخذونها في ليلٍ أسودٍ بهيم فصرخنا انتظروا ، إلى أين تأخذون مدينتنا ؟!! ..
لقد كنا والله صغاراً يابلادي فلم تكن خطيئتنا ، ثم أنهم قالوا أنك تتزوجين من فارس قديم ، وأنك توافقين … حتى أمسكتْ بك تلك العصبة من يدك في حفل زفافٍ مهين ، وكأننا نستر فيك عاراً دفين ، وقلنا ..مـاذا؟!!! قالوا ألسنا أهل الجنوب من الزاهدين ، ورغم غيرتي عليك فرحت لك ، وقلت اليوم تسعدين ، وأنك كنت تعشقين ، وتسآءلت كثيراً لم لم تخبريني رغم قربك مني عن فارسك الأمين ؟! ثم قلت لنفسي هذا حال العاشقين .. سامحيني ياحبيبتي إذ لم أسمع بكاءك ، ولم أعي ماذا تقصدين ، كنت ربما أفكر في نفسي أكثر منك بل وحضرت جنازة عرسكِ ، ثم ما فتئت اليوم أبكي عليك وعلى أمسي …. فاليوم يابلادي مزقوا أجنحتي الجميلة التي كنتِ يوماً قد منحتني إياها ، وناديتك من شدة وجعي بين أيديهم ، وأعلم أنك كنتِ لأجلي تتألمين ، ظلوا ياعدن يتلذذون وهم يشدونني من جناجي بألمٍ عظيم ، فعلوا ذلك قاصدين قليلاً قليلاً ليحرصوا أن يتستمر بكائي والأنين ماطالت السنين ، حتى إذا سقطنا ديداناً في الأرض نهرب من أقدام الظالمين داسونا ولم يرحمونا فاختبأنا في شقوق الأرض بعد كل الحقول ، وسط الظلام بعد كل النور ، نسمع وقع أقدامهم في قلوبنا وعقولنا ..تخيفنا أصواتهم .. تقرع في آذاننا كالطبول بعد كل الضحكات وكل ذلك السرور، لقد لقينا ما لقيتِ يابلادي ، وهانحن اليوم نعيش موتى في القبور … منا من استطاع الفرار إلى دول الجوار، ومنا من وقع أسير، ومنا من باع نور جناحيه بثمنٍ معيبٍ يسير ، فاشترى كثيراً من البيوت والأراضي ، وارتشف بعد رحيقك المجون ، كل هذا وإخواننا العرب يصفقون ، ويملؤون جيوبهم وأفواههم من رحيقنا القديم ، لا يعلمون أنه .. تغير قلب الرحيق وسيدق يوماً في أوصالهم شيئا فشيئا مثلما اقترفوا بنا ، سيدق فيهم سماً رحيق أرضنا ، سيدفعون به ثمن المآسي سيدفعونها دموعاً وحسرةً وخسارة بقدر الميناء والنفط والأراضي ، وكل خيرات بلادي
لكننا أيضاً نعترف بأننا أهل الجنوب لم نستحق أرضنا ، فأورثها الله الظالمين ، فقد كانوا ومازالوا يمزقون وجنتيها أمام أعيننا ، يشدونها قطعةً قطعة بأسنانهم ، ونحن مازلنا كما كنا ننظر إليهم ، ونختبئ خائفين… ألا تبـاً لنا من قومٍ خائنين …….
آهٍ يــــــــابلادي .. مـن لي بذاك الذي يحولني إلى ماردٍ عظيم ؟ .. فلأنزعنَ عنكِ كل الذئاب اللاهثين ، ولأضمدنَ جروحك فلا تنزفين ، وأضمك بدفءٍ إلى قلب مشتاقٍ حزين ، ثم أقطع مسافاتٍ طويلة وأنا أحملك تارةً في صدري وتارةً على ظهري ، حتى أصل بك إلى جضن الشمس ، وأضعك بين يديها ، وعندما تراك ، تبكي دمعتين ، وتعود الشمس حنونة ً كما كانت وهي تسمعك ترددين بصوتٍ ضعيف : لقد عدت ياأمي ، أخذوني ليلاً ، ناديتك كثيراً فلم تسمعين ، ووجدت أحبتي في جنازتي يرقصون مستبشرين… ستعتنين بي ، ولن تتركيني أموت .. أليس كذلك ؟ .. وتنام بلادي كطفلٍ صغير ، فتستدعي الشمس السحاب والأمطار، وتنبت الحقول من جديد ، وتعود الفراشات من كل مكان لتزين ضفائر جنوب اليمن السعيد، وتظل الشمس تغسلك يابلادي كل يوم من البحار والرحيق ، حتى تشرق روحك ، وتجف كل دموعك …… ثم أحيا فيك ، وأعدك بعد اليوم ألا أفكر إلا فيك .. فقط أبقى وأتنفس لأحميكِ ما حييت ، وما حييتِ ، ثم أسألك يابلادي هل سامحتني اليوم ، وهل نسيتِ

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Friday, September 9th, 2011 في 15:13

كلمات جريدة احداث: , ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي