محمد ابو كريشة

احداث مصر

السوس والهكسوس

لو قُدر لي أن أنشئ حزبا فإنني سوف أسميه حزب “؟”.. حزب علامة الاستفهام.. وهذا الاسم لحزبي سيضمن لي حجم عضوية غير مسبوق في تاريخ مصر.. ربما ينضم لهذا الحزب ستون مليون مصري لا يفهمون شيئاً مما يدور حولنا.. أما باقي السكان فإنهم لن ينضموا إلي حزبي.. لأنهم فريقان.. أحدهما فريق الأطفال الرضع.. والآخر فريق الذين يفهمون.. لكنهم “فاهمين غلط” ومرتاحون لفهمهم.. أو هم متعمدون أن يفهموا “غلط” لأن أغراضهم ومصالحهم مع الغلط.. أو لأن جيوبهم وأرصدتهم تتورم وتتضخم بالفهم الخاطيء.
سيكون برنامج الحزب مجلدا ضخمنا كله ورق أبيض وفي كل ورقة أو صفحة منه “؟”.. علامة استفهام عملاقة.. وسيكون المؤتمر العام للحزب بلا خطابة ولا اقتراحات وستوزع علامات وأدوات الاستفهام علي كل الحاضرين.. فريق يقول “ماذا؟” وفريق يقول: لماذا؟ وفريق يقول: كيف؟.. وفريق يقول: أين؟ وآخر يقول متي؟ وغيره يقول: كم؟ وفريق يقول “من؟”.
ولن أجد صعوبة كبيرة في حشد ستين مليونا يقفون تحت الشمس في الصحراء الغربية ويرفعون لافتات عليها اسم وشعار الحزب “؟”.. بلا هتاف ولا كلام ولا مطالب سوي مطلب واحد: الشعب يريد أن يفهم.
الأسئلة في مصر أضعاف أضعاف الأجوبة.. بل أزعم ان كل الأسئلة في مصر الآن بلا أجوبة.. المرض في مصر غامض والتشخيص خاطئ وبالتالي فإن العلاج كارثة ومرض جديد.. وتشخيص المرض الغامض متروك للدجالين والمشعوذين الذين يعملون بالاعلام والدين والسياسة والقانون.. وطلبات الدجالين غريبة وتعجيزية ومستحيلة.. ونحن غرقي متعلقون بقشة.. ونريد الشفاء ونلف البلد “حتة حتة” من أجل البحث عن هدهد يتيم.. أو بيضة ديك.. أو خروف مطلق .. أو نعجة أرملة.. أو “لبؤة” عاقر.. وسنعود للدجالين لنعلن فشلنا في تحقيق مطالبهم.. ولأننا “دخنا السبع دوخات” فإن الدجال سيقول لنا : “طلبك عندي.. هات فلوس وأنا أشتري لك”.. وكله بثوابه.. ولأننا “دخنا الألف دوخة” فإننا لن نقاوم وسندفع دماء قلوبنا وسنصدق الدجال ونمشي خلفه معصوبي العيون.. نريد الشفاء أو علي الأقل نريد أن نعرف نوع مرضنا.. علي الأقل نموت ونحن فاهمون.. نريد أن نفهم ولو قتلنا فهمنا.. لذلك أريد تشكيل حزب “؟” علامة الاستفهام بدلا من اللجوء للدجالين وسحرة فرعون.. ولا أريد أن أكون ضحية كارثتين.. كارثة المرض الغامض وعدم الفهم.. وكارثة الوقوع في فخاخ المشعوذين.. تكفيني كارثة واحدة ولا أريد الأخري.
نحن محاطون بجيش عرمرم من الدجالين والمشعوذين وهم يتبادلون الأدوار ويستضيفون بعضهم في الفضائيات والصحف .. هم مرشحو برلمان ومرشحو رئاسة وإعلاميون ورجال دين وثوار وفلول.. فالتربة المصرية الآن لا تجود فيها إلا زراعة الدجالين والمشعوذين.. لا توجد عندنا الآن حكومة ولا دولة.. وانما توجد معارضة فقط “كله بيعارض كله”.. المصري مثل النار.. تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله.. وهو يعارض نفسه ان لم يجد من يعارضه.. المصري وصل إلي مرحلة أن يكره نفسه ويعارضها ويقتلها.. الناس زمان كانوا ينتحرون يأسا من الشفاء أو يأسا من ايجاد عمل أو مورد رزق.. واليوم اضيف إلي أسباب الانتحار سبب جديد هو اليأس من الفهم.. اليأس من الحل.. المصري وصل إلي مرحلة “يا قاتل يا مقتول” والأفضل له أن يكون قاتلا بالطبع.. حتي ان الزوجة والعشيق قتلا الزوج وألقيا بجثته في ماسبيرو وقالا انه من شهداء الثورة وطلبت الزوجة تعويضا ومعاشا.
المصريون جميعاً يغنون مع أم كلثوم وأحمد رامي ورياض السنباطي: “أروح لمين؟”.. ويقولون للثوار والفلول واللانظام الحالي “ما هو انت جرحي وانت فرحي وكله منك”.. زمان قبل 25 يناير “افندي” كان المصريون ينظمون وقفات احتجاجية واعتصامات مطلبية كلها ترفع لافتة واحدة: “نريد تدخل الرئيس مبارك”.. وبعد قليل أو كثير يتدخل مبارك ويلغي قرارا أو يقرر علاوة فيهتف له المتظاهرون وينصرفون.. الآن لا يوجد من يتدخل أو من يطلب الناس تدخله “البلد من غير عمدة.. من غير كبير”.. الكل عمدة وكبير وأنا أمير وانت أمير ولا يوجد من يسوق أو يربط الحمير..
جمعتني جلسة عابرة مع واحد من جماعة الاخوان المسلمين وقلت له وأنا أظن انني أمدحه أو انه سيطير فرحا من قولي “أنا الآن أتمني أن يتولي الاخوان أمر هذا البلد فهم القوة الوحيدة المنظمة والتي لها أرضية صلبة أو لديها برنامج عاقل للاصلاح.. لكن الرجل فاجأني بما لم يكن في حسباني.. وأظنه وثق بي لدرجة انه أفضي إلي بخلاصة منهج هذه الجماعة أو انه تسرع وندم علي تسرعه فقد قال: الاخوان أذكي من ذلك الذي تقول: نحن نريد “جزمة برقبة” نمشي بها في الطين والوحل.. نحن لا نريد أن نحكم البلد.. نريد أن نحكم الحاكم فذلك أبقي.. وتذكرت ساعتها القول الحكيم في روسيا القيصرية.. القيصر يحكم روسيا.. والقيصرة “أي زوجته” تحكم القيصر.. والقس جريجوري راسبوتين يحكم القيصرة.
أن تبقي تحت المقعد خير من أن تجلس عليه.. فالجالسون علي المقعد يتعاقبون ويتصارعون من أجل الجلوس عليه.. لكن لا أحد يتصارع من أجل البقاء تحت المقعد.. ستبقي وحدك تحت المقعد تحركه إلي أعلي وإلي أسفل ويمينا وشمالا ولن ينافسك أحد.. والذي يقود من الخلف أذكي وأبقي من الذي يقود من الأمام.. فالقائد الأمامي “كارت محروق”.. والقائد الخلفي هو “الكومي” والولد الذي “يقش”.. وتلك رؤية طبقها اليهود بعبقرية في العالم كله وحققت نجاحا باهرا.. فهم لا يحكمون البلاد ولكنهم يحكمون الحكام.. فكرة “اللوبي”.. وعموما هي فكرة رائعة ولا غبار عليها.. ولا مانع من أن يكون في مصر لوبي تحت مقعد الحاكم يحمي البلد من الانزلاق والضياع.. نحن نريد أي مرجعية “نلف.. نلف ونرجع لها”.. نريد مرجعية ثابتة بدلا من هذا الترجيع والقييء في الأرض والفضاء والصحافة والميادين والمحاكم الإدارية التي ساهمت إلي حد كبير ومزعج في افساد الحياة المصرية وفي هذه الحالة الضبابية المقيتة.. فالمحاكم الإدارية لا تحكم بالقانون ولكن بالأهواء والانطباعات.. وفعلت ذلك في عهد مبارك عندما تفجرت قضية النقاب في الجامعات.. وفي قضية الغاز لإسرائيل.. وفي قضايا تمكين الأحزاب والمنشقين عنها من المقار.. حكم هنا.. وحكم مضاد هناك.. واستشكالات حتي صار القضاء الإداري في مصر لعبة سخيفة.. أو مسخرة .. وصار قضاء بلا هيبة ولا وقار ولا معني ويساهم بكل قوة في تمزيق هذا البلد وكأن الحكاية “ناقصة قرف”.. وأصبح الغاء القضاء الإداري في مصر خيرا من بقائه.. لأنه يلعب سياسة بلا فهم ولا يلعب قانونا.
ربما أكون علي صواب إذا قلت جازما ان عصر مبارك أو عهد مبارك سيكون آخر عهد مصر بالدولة المركزية أو الحكومة المركزية.. أو ان مبارك هو آخر رئيس لمصر وان الدولة المركزية سقطت بسقوطه إلي الأبد.. أو علي الأقل ستبقي مصر طويلا طويلا مثل مصر قبل عهد محمد علي.. سمك لبن تمر هندي واننا سندخل من جديد عصر الأمراء المماليك.. مراد بك وابراهيم بك وعلي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب وشيخ العرب همام ومحمد بك الألفي ورضوان كتخدا.. إلي أن يعيد التاريخ نفسه بعد قتال وحروب ومجاعات حتي أكل الناس القطط والكلاب والجيف والأطفال في عام ..1872 ويظهر محمد علي جديد ليخلصنا من هؤلاء جميعا في مذبحة القلعة التي لا أدينها ولكني اعتبرها أعظم عمل في تاريخنا الحديث لأنها كانت نهاية مأساة وبداية عصر جديد زاهر لمصر.. فقد كانت مذبحة مثل المرأة.. أي كانت شرا لابد منه.
رئيس مصر القادم سيكون “شرابة خرج” يعتلي البرج.. وحوله مئات الأمراء من المماليك الذين يريدون أن يتسلطنوا.. منهم مقدم عشرة ومنهم مقدم مائة.. ومنهم مقدم ألف.. أي يرأس عددا من المماليك تحت امرته ويحركهم كيف يشاء.. وسيصبح الرئيس القادم مثل قنصوة الغوري.. أو مثل خاير الذي سماه المصريون “سلطان ليلة” لأنه حكم ليلة واحدة ثم وثب عليه المماليك وسلطنوا غيره.. قراءة كف مصر مزعجة جدا ومقلقة.. فأمامها سكة سفر طويلة جدا.. ستعاني فيها الأمرين وقد تصل مثخنة بالجروح أو لا تصل أبدا.. فالدولة المركزية تآكلت وسقطت.. ربما إلي غير رجعة أو لن ترجع في حياتنا وفي حياة أبنائنا.. ربما إذا لطف الله بنا نرجع في حياة أحفادنا.. والمشوار المؤلم والمظلم ستسقط عدة أجيال قبل بلوغ نهايته إذا بلغتها مصر.. وسقوط الدولة المركزية ماثل أمامنا وظاهره كالشمس.. ومن مظاهره علو كعب الطائفية والمذهبية والمسيحية والاسلامية والفئوية والمهن والقبلية والعائلية والعرب والهوارة.. وصارت لكل محافظة قضية قومية خاصة بها.. وأصبح اللانظام الحالي أطرش في الزفة.. يخشي غضب الأمراء المماليك من حوله في التحرير وفي روكسي وفي مصطفي محمود وفي ماسبيرو وفي الفضائيات والصحافة وفي المحافظات “ويطبطب ويدلع” ويبحث عبثا عن حل يرضي جميع الأطراف المتضادة والمتناقضة.
***
مصر بلغت حالة الجنون.. والمجانين ليسوا مسئولين عن أفعالهم يا صديقتي نيفين محمد ويا صديقي أيمن القفاص وصديقي سعد نبيه صابر..فهي الآن أي مصر بلد بلا مخ.. أو به خلل في المخ أفقده السيطرة علي كل أجزاء وأعضاء جسده.. فهو يتبول لا إراديا في سوهاج.. ويقطع الطرق في كفر الشيخ ودمياط ويفجر ويدمر في سيناء.. ويهجص في التحرير وفي الفضائيات.. كله مختلف مع كله.. شماريخ في الملاعب.. خطف واغتصاب وسطو.. المصريون شعب ينتحر ويسمي انتحاره ثورة.. مصر المملوكية تعود بقوة.. وهذا وضع فيه مستفيدون كثيرون.. كل من حولنا مقاولو هدد .. يريدون أن يهدموا هذا الوطن ويتاجروا في أنقاضه.. وهذا الوضع المأساوي في ظل الغياب الذي قد يطول للدولة المركزية سيؤدي لا محالة إلي التقسيم والتفتت والتمزق.. ففي ظل دولة المماليك لم تكن هناك قوي أجنبية كبري تتدخل باسم حماية الأقليات وحقوق الانسان.. لذلك نجت مصر من التقسيم رغم غياب الدولة المركزية.. أما الآن فإن ذهاب الأمور إلي الاقتتال والحروب الأهلية الصغيرة الدائرة الآن سيجعل التقسيم علي المدي الطويل هو الحل.. وساعتها عندما أكون في القبر لا أدري كيف سيقسم المصريون التاريخ والآثار وشهداء الحروب والأهلي والزمالك والنيل.. ستكون مأساة بلا نهاية حتي يظهر مينا جديد يوحد الأقطار أو يظهر محمد علي جديد ينقذ مصر بمذبحة القلعة أو مذبحة التحرير أو مذبحة بيت علام.
القرية المصرية كثر مترفوها في الأرض والفضاء والصحافة والقضاء والسياسة والدين.. ويبدو ان فسوق المترفين في القرية بلغ مداه وحانت ساعة التدمير.. الكل علي باطل.. الكل يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله علي ما في قلبه وهو ألد الخصام.. ويسعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.. المصريون إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون.. الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.. مصر لا يحكمها ولا يشكمها أحد.. ولن يحكمها أحد علي المدي الطويل.. فقد ذاق المترفون حلاوة غياب الدولة ولن يسمحوا بعودتها مرة أخري.. الحيوانات السائبة أكلت الراعي وذاقت حلاوة الفوضي وإهلاك الحرث والنسل بلا ضابط ولا رابط ولن تسمح براع آخر وستنصب أي خروف منها حاكما ليكون شخشيخة وشرابة خرج تسهل إزاحته وتولية خروف غيره.. وفي هذه الفوضي والفتنة سيقعد المحترمون المحبون لهذا الوطن في بيوتهم انتظارا للموت ولن يشارك في اللعبة كما يجري الآن سوي الزعران والزلنطحية والمماليك والمتربحون من الهدد والأنقاض.. تاريخ مصر السيئ والأسود هو الذي يعيد نفسه لكن أيامها الزاهرة والمضيئة لا تعيد نفسها.. لذلك سيعود عصر الأمراء المماليك الجلبان العبيد ولن يعود عصر مينا أو محمد علي بسهولة.. لقد جفف نظام مبارك المنابع وعقمت مصر عن ولادة مبدعين ومخلصين وذوي أدمغة وساسة.. والنجوم الورقية هي هي لم تتغير.. هي نفسها التي كانت تعارض وتطنطن وتصرخ وترقص في عهد مبارك وباتفاق مع نظامه.. هي نفسها التي تلعب الآن نفس الدور لكن ليس بالاتفاق مع أحد حيث لا يوجد نظام ولا دولة.. ولا منهج.. ولكن يوجد خيال مآتة يسمي حكومة تدير أزمات ولا تحلها.. تماما كما كانت تفعل حكومات مبارك.. فهذا البلد كتب عليه أن يحكمه المماليك في السلطة وفي المعارضة.. أن يعتلي كل قممه الأونطجية والهبيشة والهليبة.. وأن يتاجر مقاولو الهدد في انقاضه.. وقد نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. وقد بشمن وما تفني العناقيد علي رأي المتنبي.. ستظل مصر طويلا مسوسة ومهكسسة.. ستظل طويلا طويلا ينخرها السوس ويحكمها الهكسوس!!!

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Wednesday, November 16th, 2011 في 02:31

كلمات جريدة احداث: ,

3 رد to “السوس والهكسوس”

  1. خالد
    17/11/2011 at 00:09

    اللهم من اراد بهذا البلد خيرا فوفقه لكل خير ومن اراد بها شرا فاجعل تدبيره تدميره واجعل كيده فى نحره واشغله فى امره

  2. خالد
    17/11/2011 at 00:05

    ربنا يشفيك

  3. ahmed
    16/11/2011 at 13:59

    وفى التقسيمة اللى قسمتها للشعب دى فين اللى بيفهموا صح بقى

اترك تعليقاًً على هذا الرأي