الجنة المفقودة التي طرد منها الإنسان في المسيحية والإسلام ليست مجرد أدب ديني، أو محض فكرة عقائدية، بل فلسلفة حياتية وتاريخية كاملة، محور واحد ووحيد أسست حوله حضارة الشرق نفسها.
دائرة ثقافية مغلقة، يدور في اطارها العقل العربي منذ قرون، في مسيرة تاريخية دائرية مُرهقة لا تكّل ولا تمّل من تكرار عبارة التاريخ يعيد نفسه، مع أن كل شئ ممكن أن يعيد نفسه إلا التاريخ بالذات !
وفهمك لواقع الحضارة الغربية العلمانية، ومقارنتها بالحضارة الشرقية الدينية، سيكون حتماً فهم عليل ومنقوص إن لم يبدأ من هذه النقطة بالذات، نقطة الجنة المفقودة !
فالجنة التي أنحط منها آدم هي “المثل الأعلي” الذي يسعي دوماً للرجوع إليه كل أبناء آدم من جنس العرب بالذات.
وما عصر السلف الصالح، إلا جنة التاريخ المفقودة بالنسبة للعرب، إلا “المثال الأعلي التاريخي” الذي يسعي العرب دوماً للرجوع إليه وللتمثل به، في محاولات دوماً بائسة، ودوماً فاشلة، ولابد أن تكون.
ومع وجود مثل أعلي هو الجنة المفقودة، هو زمن السلف الصالح، يوجد بالمقابل واقع منحط.
ولو حاولت عمل رسم بياني لهذة المسيرة، كي تحدد عليه نقطة الواقع، لوجدته – أي الرسم – كان في أعلي حد له عند نقطة بدايته، وأدني حد له عند نقطة واقعه المُعاش، رسم دايماً نازل. لأنه، وببساطة، أي موضع خارج الجنة المفقودة هو الجحيم بعينه.
ومع أن مقارنة محاولات الصعود بالنزول يضع الصعود في خانة الأصعب إلا أن مقارنة العودة بعقارب الزمن إلي الوراء، حيث السلف الصالح، مع سيرها إلي الأمام، يضعها فوراً في خانة المستحيل، وتلك هي معضلة الحضارة العربية المستحيلة.
لكن الوضع مختلف هناك في الشمال، حيث الغرب الكافر، حيث لا وجود للجنة المفقودة، فالجنة حاضرة بالفعل، ونقطة البداية، بداية الرسم البياني، دوماً متجددة، لأنها دوماً الواقع، فالحياة هي الجنة الحقيقية المعاشة، وما السعي دائماً وأبداً إلا لتحسين ظروف المعيشة في هذه الجنة،
وطالما الجنة غير مفقودة، فالمثال الأعلي التاريخي مفقود، وبالتبعية النقد موجود، وبالنقد وحده يمكن تحسين ظروف الواقع، أقصد ظروف الجنة. وتلك هي فلسلفة العلمانية !
يقول عبد الله القصيمي: الشعوب العربية لا تعترف بقيمة النقد، بل لا تعرفه، إن النقد في تقديرها كائن غريب كريه، إنه غزو خارجي، إنه فجور أخلاقي، إنه بذاءة، إنه وحش فظيع يريد أن يغتال آلهتها، إن النقد مؤامرة خارجية، إنه خيانة، إنه ضد الأصالة، لذا تظل الشعوب العربية تتغذى بكل الجيف العقلية التي تقدم إليها، لا تسأم التصديق ولا تمل الانتظار.
أما السبب الذي سكت عنه المفكر السعودي؛ فهو الجنة المفقودة في ثقافة العرب.
لأن كل نقد في بلاد العرب لايتم إلا بالإحالة إلي المثل الأعلي، لا يتم إلا بالمقارنة مع زمن السلف الصالح المفقود، لذا ففلسفة التاريخ عند العرب نكوصية بإمتياز، بينما هي، وبالنقد وحده، تصحيحية عن الغرب الكافر.
يقول الأنصاري : إن أهم ما يميز الحضارة الغربية أنها دينامية متجددة، تتخذ من أزماتها الداخلية والخارجية عتلة لمزيد من الحيوية والتقدم من خلال ممارسة النقد والتصحيح الذاتي، علي نحو لم يُقيض لأي حضارة سابقة عليها.
وما قاله الأنصاري ضمناً وسكت عنه تصريحاً: أنها حضارة علمانية !
العلمانية هي الحل !