توجهت، ظهر يوم الاستفتاء، يوم السبت الموافق 15 ديسمبر عام 2012 للتصويت على مشروع الدستور، كغيري من ملايين المصريين المتحمسين للإدلاء برأيهم وممارسة حقوق المواطنة التي عزفوا عن ممارستها ردحًا من الزمن لأسباب معروفة.
لمن أكن أتوقع لدى وصولي لمقر لجنة الانتخابات أو الاستفتاء في مدرسة مدينة نصر النموذجية الإعدادية القانونية بنين أن أجد هذا العدد الكبير من المواطنين الذين اصطفوا في طابور مهيب ومنظم يقارب طوله الثلاثمائة متر خارج مقر اللجنة، انخرطت مجموعات من المواطنين في نقاش طويل حول مشروع الدستور، وتوزع النقاش دون تنظيم مسبق بين حجج القائلين بنعم وحجج القائلين بلا، أقصد الذين ينتوون التصويت بنعم أو بلا، فالأولون يبحثون في أعماقهم عن الاستقرار المفقود، والبدء في مرحلة العمل والإنتاج والانطلاق واستعادة الأمن، بينما الآخرون يرون أن التصويت بنعم لا يكفل الاستقرار بل قد يكون مرحلة جديدة في مراحل عدم الاستقرار؛ بسبب الانقسام والاستقطاب الذي يشق مجراه، ويضيفون أنهم قالوا نعم للاستفتاء الذي جرى في 19 مارس عام 2011 ولم يشهدون استقرارًا ولا أمنًا بل المزيد من غياب هذا وذاك.
يخشى المؤيدون أن تدخل مصر في مرحلة انتقالية تطول أكثر من ذلك، وأن تعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى، بينما يخشى المعارضون للدستور أن يفاقم الدستور من المشكلات والتحديات القائمة، وأن يعمق الانقسام بين المصريين، وأن يفتح الباب على مصراعيه للتنابذ اللفظي والمعنوي الذي قد يفضي الى تسويغ العنف والفوضى.
تظهر حكمة المصريين البسطاء والبعيدين عن التعصب في هذه الظروف المعقدة التي تمر بها مصر، يستدعي المصريون خبرة السنين والأيام في التعايش والتسامح مع بعضهم البعض، بل ويدركون أنه لا مجال لاستبعاد وتهميش هذا الفريق أو ذاك، فالمؤيدون والمعارضون مصريون وإن اختلفت آراؤهم، طالما بقي التعبير عنها سلميًّا وقانونيًّا، وذلك مظهر حضاري يثبت قدرة المصريين على استيعاب ثقافة الديمقراطية وقيمها.
مكثتُ في هذا الطابور الطويل قرابة أربع ساعات ونصف الساعة كغيري من المواطنين، وعندما حان دور دخولي إلى مقر اللجنة هرولت مسرعًا نحو اللجنة لأجد نفسي في طابور آخر أقصر هذه المرة من سابقه، ولكنه أيضًا استغرق بعض الوقت.
أثناء وقوفي في هذا الطابور الجديد، وعندما اقترب دوري من باب لجنة الاقتراع سمعت صيحات تتعالى من جمهرة المواطنين “استبدلوه بآخر”، “المريض يلزم منزله”، “فيترك مكانه لغيره”، وعندما سألت أحد الواقفين بجواري عمن هو المقصود بهذه الصرخات والصيحات علمت أنه أحد الموظفين الذي يساعد القاضية المشرفة على اللجنة الذي لا يريد أن يعمل لأنه مريض، تحدث البعض إلى الضابط الواقف على باب اللجنة حينا وحينا آخر إلى رئيسه الذي يحمل عددًا من السيوف على كتفه، والنتيجة النهائية أنه لم يتم استبدال الموظف المريض وظل الأمر على حاله من الاكتظاظ والاحتجاج على بطء سير العملية، واستمرار حالة الإنهاك التي انتابت المواطنين من جراء هذا الوقوف الممتد، وكأنه نوع من التأديب والتعذيب.
ربما حاولت القاضية المشرفة على اللجنة الاستعانة بموظف آخر، ولكن محاولتها باءت بالفشل، وربما حاول كذلك المشرف على الأمن ولكن سوء التنظيم وسوء الاستعداد حالا دون ذلك، هذا بافتراض حُسن النية، أما في حالة افتراض سوء النية- والعياذ بالله- فإن الأمر في غنى عن التفصيل.
قاربت الساعة الخامسة والنصف مساء عندما وجدت نفسي وجهًا لوجه مع الموظف السليم الذي كشف عن الأسماء المقيدة بالجداول ويقارنها ببطاقة الرقم القومي، وعلى الفور استملت استمارة الاستفتاء وقلت “لا للدستور” مقتنعًا بعد أن قرأتُ عدة مسودات، فضلاً عن الوثيقة الرسمية.
تنفست الصعداء وخرجت من مقر اللجنة، وألقيت نظرة على جموع المواطنين الذين شكلوا طابورًا جديدًا أقل هذه المرة، ولكنه في جميع الأحوال طويل أيضًا، وتمنيت لهم جميعًا أن يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم قبل غلق مقار اللجنة.
وهكذا كُتب على الاستفتاء كما كُتب على الدستور من قبله أن يجري في مناخ محتقن واستقطاب فعلي، ولا يلائم تلك المشاعر التي كان يمكن أن تحيط بمناخ إقرار الدستور والفرح بتلك الوثيقة التي قد تحكم مصر أو تُحكم مصر من خلالها لعقود أخرى قادمة.
يعرف المصريون دائمًا من خلال رصيد الحكمة والبصيرة المختزنة في أعماقهم فرادى وجماعات كيف يضعون الأمور في نصابها وحجمها الطبيعي، ولا يمنحون ثقتهم المطلقة إلا لمن كان صادقًا معهم، ومن ثم فقد قالوا نعم بتحفظ، وقالوا لا بقدر، وفي انتظار المرحلة الثانية.