بثت ثورة 25 يناير في المصريين روحا جديدة، جعلتهم كمن بعث بعد موات دام لسنوات طويلة. وخرجنا بعد التنحي محملين بالآمال ومشاعرالتفاؤل بالمستقبل المشرق، شاهد العالم لأول مرة شعبا يقوم بثورة ثم يخرج بعدها حاملا المقشات وأدوات النظافة لينظف الشوارع والميادين ويعيد طلاءها ويصلح ما فسد بها من جراء الحشود البشرية الهائلة بعد معركة طاحنة دارت بين إرادة ثورية شعبية شبابية الروح وإرادة نظام سياسي متهالك متداع خرجت منها الثورة منتصرة بفضل الله ومشيئته.
ثم جاء استفتاء مارس 2011 بعد ما يزيد عن شهر من الثورة ليكون بداية الانقسام بين طوائف المصريين التي ظلت متحدة طوال 18 يوما على هدف واحد “الشعب يريد إسقاط النظام”. كان الاستفتاء أول درس للمصريين بعد الثورة يختبرون فيه استعدادهم لممارسة الديموقراطية. وبرغم أن الاستفتاء قد سارهادئا ومنظما إلى حد كبير وبرغم الإقبال الشديد من جميع طوائف المصريين على المشاركة إلا أن الدرس لم يكن سهلا ، كان بمثابة وجبة دسمة لشخص يتعافى من مرض أصابه لفترة طويلة منع خلالها من الأكل. فبعد أن فرض على المصريون لسنوات طويلة مقاطعة الانتخابات والاستفتاءات وما شابهها من أشكال المشاركة السياسية وجدوا أنفسهم فجأة أمام إعلان دستوري مكون من مواد دستورية معقدة الصياغة مطالبين بدراسته وقبوله أو رفضه، كانوا مثل طالب دخل الامتحان فجأة دون أن يذاكر أي شيء فكان الحل الوحيد الذي لجأ إليه الكثير منهم هو ما يمكن أن نطلق عليه بلغتنا الدارجة “الغش”، نسبة قليلة من المشاركين كانت مستعدة للامتحان أما الأغلبية العظمي فكانت تحتاج إلى تأهيل أفضل وإلى العديد من الامتحانات التحضيرية لإعدادها لمثل هذا الامتحان الصعب. ولكن لأن المصري يحب وطنه إلى أبعد الحدود ويخاف عليه فقد فضل أن يغش الإجابة من أشخاص بدوا له أنهم أشخاص موثوق بهم أو أنهم أشخاص على قدر أكبر من الفهم فإذا كان الأستاذ فلان أو الشيخ علان يرى ذلك فماذا أكون أنا لكي أفهم أكثر منه؟
كان الامتحان أكبر من قدرات الكثيرين ولهم كل الحق في ذلك وخرجت النتيجة المتوقعة بنعم وما تبعها من تقسيم وهجوم متبادل من الجانبين، وازدادت نبرة الهجوم من الطرف المنتصر على اعتبار أن الطرف الآخر “المهزوم” ضد الدين والشريعة وشحن بعضهم الناس أن من قالوا لا للإعلان الدستوري إنما قالوا لا للاستقرار والجيش والدين والشريعة!!!
والآن وبعد مرور نحو عام ونصف على الثورة لم نرى حتى الآن أي بوادر للاستقرار ولم نكتب دستورا جديدا ولا انتخبنا رئيسا بل إن الوضع الاقتصادي نفسه صار أسوأ مما كان عليه قبل الثورة. وخرج علينا الفريق الذي طالما دعا الناس للتصويت بنعم وبدا واثقا من اختياره ليقول ” يبدو أن نعم كانت اختيارا خاطئا” بعد أن اكتشفوا “فجأة” أنهم قد يخرجون خالين الوفاض بعد ما تم استغلالهم في القضاء على المد الثوري وحشد الرأي العام ضد الثورة ورموزها. ولكن ممثلو هذا الفريق لم يجدوا في سوء اختيارهم – عن عمد أو دون قصد – مبررا ليتركوا جزءا من الساحة السياسية لمن يفهمون أكثر بل إنهم يصرون كل يوم على الاستحواذ والسيطرة على كافة أجهزة الدولة بدءا من البرلمان فالنقابات فاللجنة التأسيسية وأخيرا الرئاسة وكأن هدفهم هو استعراض العضلات والمغالبة بغض النظر عن امتلاكهم للكفاءات المؤهلة أم لا ولأن الغاية تبرر الوسيلة لديهم فلا مانع من استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من شعارات وخطب دينية رنانة ووعود كاذبة وخلف للوعود والتذرع بحجج مثل حب الوطن والخوف عليه من المؤامرات.
لم يدرك هؤلاء أنهم بعد الثورة كانت لديهم فرصة ذهبية ليكتبوا صفحة جديدة مشرقة من تاريخ مصر وكان الشعب المصري بأكمله سيقف وراءهم بكل ما لديه من قوة وطاقة إيجابية، كانوا سيوفرون على أنفسهم تسول السلطة مقابل الحصول على بعض الفتات من السلطات السياسية غير الحقيقية.
كنت كثيرا ما أتساءل كيف كان سيبدو الوضع لو سرنا في الطريق الآخر وقلنا لا؟ ماذا لو اتحدنا جميعا على هدف واحد وقطعنا الطريق على من قسمنا وتركنا خلافاتنا جانبا، وقمنا باستغلال الزخم الثوري في بناء مصر بالشكل الذي تستحقه ونرجوه لها. ولكني أدرك الآن عظمة التعبير القرآني ” وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”.
كان لابد لنا من المرور بهذا الامتحان الصعب “ليميز الله الخبيث من الطيب”. صحيح أننا أضعنا من أعمارنا نحو عام ونصف لم ننجز فيه شيئا ولكن مع كل يوم في هذه المدة كنا نتعلم شيئا جديدا وتتكشف لنا حقائق خفية كنا سنستغرق سنوات لاكتشافها. سقطت في هذه الفترة الكثير من الأقنعة وربما لو كانت هذه القوى الانتهازية قد وصلت إلى السلطة سريعا وبإرداة ديموقراطية شرعية كان سيكون من الصعب وقتها كشفها وكشف نواياها، كما أن ما حصلوا عليه حتى الآن هو مجرد سلطات زائفة غير حقيقية وقد باعوا مقابل هذه السلطات الهشة الكثير من الأشياء الجميلة، وأداروا الظهور لمن أتى لهم بهذه السلطات على طبق من ذهب، نعم إنني أرى الآن أن الوقت الضائع لم يكن ضائعا حقا، لقد كانت فترة تدريب للذات خرج منها الشعب المصري بدروس هامة من بينها هي أن يتحمل نتيجة اختياره وألا يتكل على أحد مهما كان علمه أو مكانته ليأخذ القرار بدلا عنه. لقد من الله علينا بأعظم النعم وهي نعمة العقل، علينا أن نستخدم عقولنا، وأن نتعب للتأكد من صواب اختيارنا، فما يأتي سهلا يضيع بسهولة أما ما يتعب المرء في الحصول عليه فدائما ما يستشعر قيمته ويتفانى في الحفاظ عليه “وأن ليس للإنسان إلا ما سعي وأن سعيه سوف يرى” صدق الله العظيم.