مع بداية العام الماضي انطلقت الثورات العربية أو ما عرف بعدها باسم “الربيع العربي”، جاءت الشرارة من تونس لتنتقل منها إلى مصر فاليمن فليبيا وسوريا وحتى الخليج العربي لم يسلم من آثار هذا التغير، حدث تغير ملحوظ في الأفكار والعقليات في الشرق الأوسط، صحيح أن هذا التغير لم يطل جميع المجالات بعد ولكن لا أحد ينكر أن التغير الذي حدث هو تغير مذهل ومفاجئ إلى حد كبير، لم يعد الأمر كالسابق فقد خرج المارد من قمقمه، أحدث حراك الأحداث الثورية حراكا في الأفكار والتوقعات والأمنيات والآمال، تعالت الهتافات المتعطشة للحرية والعدالة والمساواة أمام القانون، وامتدت دعوات التغيير من المحيط الأطلسي غربا حتى الخليج العربي شرقا.
انتقلت الشعوب العربية -التي ظن الكثيرون أنها استكانت للطغاة واعتادت أن تساق كالقطيع – فجأة من حالة السلبية والاستكانة إلى حالة جديدة من الإيجابية والحماسة. أرادت الشعوب أن توصل رسالة معينة لحكامها مفادها أننا أغلبية ولن نترككم أنت الأقلية المستبدة تتحكمون في مقدراتنا وتسوقونا كالغنم، لن نسمح لكم بعد الآن أن تستغلونا وتمتصوا دماءنا ثم تدوسونا بأقدامكم، ستكونون خادمين لنا من الآن فصاعدا ولن نقبلكم أسيادا علينا تذلونا وتسومونا العذاب كي تهنئوا أنتم، لن تجوعونا كي تشبعوا أنتم، لن تجهلونا كي تعلوا أنتم.
أما الرسالة الأخرى التي وجهتها الشعوب العربية بثوراتها فكانت للأنظمة الغربية ومفادها: رهانكم على الحكام المستبدين رهان خاسر، ودعمكم للطغاة لم يعد وسيلة للحفاظ على مصالحكم، نصرتكم للشعوب هي الأحق لأن الشعوب هي الأقوى مهما بلغ حكامهم من تسلط وجبروت.
اكتشفنا بفضل الثورات العربية أن الحكام المستبدين يحملون سمات مشتركة فهم أنانيون لديهم نزعة جنونية من أجل فرض السيطرة والبقاء ولو كان الثمن دماء شعوبهم، انتهازيون، فاسدون، مرضى نفسيون يسيطر على كثير منهم جنون العظمة و النرجسية وحب الذات، ولكننا اكتشفنا أنهم مع كل ما يمتلكون من سلطة وقوة غاشمة لا يستطيعون إخفاء الحقيقة وليس بمقدورهم قهر الشعوب إذا هي يوما أرادت البقاء.
يرى البعض أن الثورات العربية ليست فقط نتيجة حتمية وطبيعية لقهر واستبداد الحكام العرب لعقود طويلة، بل هو بداية لفصل جديد في تاريخ هذه الشعوب وربما في تاريخ العالم بأكمله. فكما أن الأمم المتقدمة كانت قد مرت فيما مضى بمراحل من التطور بدأت فيها ضعيفة ونجحت بعد ذلك في الصعود شيئا فشيئا حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من قوة تكنولوجية، فكذلك يرى هؤلاء المتفائلون بالثورات العربية أن الشعوب العربية تخطو الآن أولى خطواتها على طريق التطور التكنولوجي، ولو وفقت في عبور هذه المرحلة بنجاح ووضعت الأسس السليمة اللازمة لبناء ديمقراطية حقيقية فستشهد هذه المجتمعات خلال العقود القادمة نهضة سياسية واقتصادية وإيديولوجية شاملة.
والثورة الحقيقية تبدأ بالنقد الذاتي، إذ لا قيمة للثورات دون أن تنظر الشعوب إلى أحوالها نظرة نقدية وتحاول إفساد ما سببه الفساد والقهر لعقود طويلة، والشعوب العربية أشبه هنا بمريض السرطان الذي كان يدرك أنه مصاب بالمرض منذ سنوات طويلة ولكنه كان يتقاعس عن علاجه إذ كانت تنقصه شجاعة المواجهة، وحين قرر المريض الانتفاض لبدء العلاج والنضال من أجل الشفاء كان المرض قد استفحل وبث شروره في أنحاء كثيرة من الجسد، ولا قيمة للعلاج في هذه الحالة إذا قام الطبيب بإزالة جزء من الورم السرطاني وترك الأورام الأخرى، فإما أن يكون العلاج متكاملا وشاملا أو ستحدث انتكاسات أخرى للمريض عاجلا أم آجلا. صحيح أن العلاج الشامل سيستنزف قوى المريض وسينهكه لبعض الوقت ولكنه أضمن من العلاج الجزئي المؤقت الذي قد يخفف من أعراض المرض بعض الشيء ولكنه لن يستأصل ِِشأفته تماما.
ومما لا شك فيه أن الثورات لم تكن ولن تكون أبدا ظاهرة محلية…نعم إنها تبدأ محلية ولكنها سرعان ما تأخذ بعدا إقليميا وفي كثير من أحيان أيضا بعدا دوليا، وإذا كانت ثورات مثل الثورة الفرنسية عام 1898، والثورة الروسية 1917 قد أحدثت تغييرات كبيرة امتدت خارج نطاق فرنسا وروسيا، فكيف يكون الوضع اليوم مع وجود وسائل التقدم التكونولوجي ومواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر و مع وجود المدونات؟، ويكفي أن هذه المواقع قد أسهمت في انطلاق شرارة الثورات العربية إذ كانت وسيلة استخدمها الشباب المنظم للتظاهرات للحشد وحث الجماهير على المشاركة. بل إن مواقع مثل يوتيوب وتقنيات مثل بامبوزر كانت سببا في وصول حقيقة ما يحدث إلى العالم بعد أن حاول الحكام المستبدون طمس معالم الحقيقة مستغلين إحكام قبضتهم على الإعلام الحكومي.
إن الطريق مازال طويلا ومازال من المبكر جدا الحكم على نجاح أو فشل الثورات العربية، وسنرى ما إذا كانت هذه الثورات ستقود الشعوب العربية إلى تحول ديمقراطي حقيقي أم لا، وهل ستنجح الشعوب العربية في تطوير مفهوم خاص للديمقراطية يلائم مجتمعاتها وقيمها وطبيعة المرحلة التي تمر بها، أم أن التمسك بالديمقراطية بالمفهوم الغربي كفيل بإحداث صراعات وانقسامات قد تقضي على ما حققته الثورات من قيم إيجابية. إنه تحد كبير تواجهه الشعوب العربية وستحدد طريقة المواجهة هل كانت الثورات مجرد تحريكا سطحيا لمياه راكدة أم أن آثارها ستضرب في العمق وتمتد إلى الجذور؟
مقال رائع وجميل يرصد المشهد السياسي في العالم العربي بعد اندلاع ثورات الربيع العربي ويقدم لنا تحليلا للأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي الثائر
رائع بجد
مقال رائع يا شيماء، جزاكِ الله خيرًا
تأثرت كثيرًا بتلك العبارة:
والثورة الحقيقية تبدأ بالنقد الذاتي، إذ لا قيمة للثورات دون أن تنظر الشعوب إلى أحوالها نظرة نقدية وتحاول إفساد ما سببه الفساد والقهر لعقود طويلة.
أرى أنه أمر حتمي أن ينتقد كل فرد نفسه قبل أن ينتقد غيره، فنحن نحتاج إلى ثورة على النفس قبل أن نقوم بثورة على الحكام والفساد بشكل عام. أشعر بأن تلك الثورة لن تؤتي بثمارها إلا عندما ينتقد كل منا نفسه ويرى كيف يصلح نفسه ثم يطالب الآخرين بإصلاح أنفسهم، فالعجب كل العجب أن يثور الموظف المرتشي على الحاكم الظالم والطبيب -المغالي في أجره – على الحاكم الظالم والمعلم – الذي يقوم بإعطاء التلاميذ مجموعات تقوية في المدرسة أثناء اليوم الدراسي ثم دروس خصوصية بعد اليوم الدراسي – على الحاكم الظالم والعامل – الذي يظل موجودًا في عمله دون أن يعمل فقط ليحصل على الأجر الإضافي – على الحاكم الظالم وغيرهم من بعض أصحاب المهن الأخرى دون أن يصلحوا من أنفسهم أولاً. وكما أشرتِ في مقالك يجب أن نطوع مفهوم الديمقراطية وفقًا لما يتناسب مع أوضاع مجتمعنا الشرقي، لا أن نطبق تلك الديمقراطية بحذافيرها كما هي مطبقة في الغرب.
نسأل الله أن يصلح أحوال بلادنا ويولي علينا الأصلح.
حلو اوى يا شيماء بالتوفيق يا حبيبتى دايما فعلا الطريق مازال طويلا ومازال من المبكر جداللحكم على فشل او نجاح الثورة ومهما كان الحكم مش هيكون اوحش من اللى عشناه في عهد المخلوع. لابد من يوم تترد فيه المظالم
تحليل رائع من الدكتورة شيماء نفعنا الله بعلمها، والحقيقة أن الطريق لا يزال طويلا أمام الشعوب العربية وندعو الله أن تواصل الشعوب السير في طريقها نحو الكرامة والعزة، مع أنه شاق. لكن مهما يكون فالعيش ساعة في كرامة وعزة أفضل من العيش دهورا في ذل وانتكاسة.