كان قداسة البابا شنودة شخصية استثنائية في تاريخ الوطن.. والكنيسة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.. اعترف بها شيوخ الأزهر.. قبل أن يقررها رجال الدين المسيحي من الطوائف الأخري.
وصفه الدكتور محمود عاشور وكيل الأزهر السابق.. بأنه يمثل ظاهرة من الظواهر العظيمة التي يصعب أن تتكرر.. فهو ليس له مثيل.
وليس من الإنصاف أن نتوقع أن يكون خليفته نسخة طبق الأصل. وأن يمتلك كل قدراته التي أقرها الجميع حتي لا نظلمه.
فالحالة التي يمر بها الوطن حالياً.. تختلف تماماً عن الفترة التي تولي فيها قداسة البابا المسئولية منذ أكثر من أربعين عاماً.. وفرضت علي الكنيسة القيام بأدوار أخري تتجاوز دورها الديني بسبب تخلي الدولة عن القيام برعاية مواطنيها.
وبالرغم من أن كل المقدمات كانت تشير إلي اقتراب لحظة الرحيل.. إلا أن هذا لم يمنع أن يصاب المصريون بصدمة شديدة عندما علموا بوفاة قداسة البابا.
ربما لأنهم لم يعرفون بطركاً آخر سواه طوال أربعين عاماً.. شاركهم أفراحهم وأحزانهم هزائهم وانتصاراتهم.. حتي أصبح رمزاً من الرموز الوطنية المصرية.
وربما يتذكر الذين حضروا نكسة عام 67 مدي قسوة الحرب النفسية التي وجهتها اسرائيل لشق صفوف الجبهة الداخلية.. والسعي لإثارة الفتن بين الأقباط والمسلمين.
وتصدي الأنبا شنودة في مقالاته الصحفية والندوات التي كان يعقدها لتفنيد تلك الدعاوي وكشف أهداف الدعاية الصهيونية.
وأذكر المحاضرة التي ألقاها عام 68 في نقابة الصحفيين وكانت بعنوان “إسرائيل في رأي المسيحيين” رد فيها علي دعاوي تيار المسيحية الصهيونية. وأشار إلي أن شعب الله المختار يقتصر علي كل من آمن بالمسيح.
وكان تأثير تلك المحاضرة عميقاً سواء في رفع معنويات المصريين.. أو وأد رياح الفتنة القادمة من العدو الصهيوني.
قدم البابا في محاضراته رؤية جديدة لموقف المسيحية من العقيدة اليهودية. أزعجت الصهاينة ومن يؤيدهم من المسيحيين في أمريكا وأوروبا.
ويذكر المصريون للبابا شنودة.. موقفه الحاسم في رفض زيارة القدس بصحبة الرئيس السادات.. الذي كان يعول علي أهمية ان يرافقه قداسة البابا لتسويق اتفاقات كامب ديفيد. وليحقق رغبة زعماء اسرائيل في التطبيع مع رمز الكنيسة الوطنية المصرية. ولكن قداسة البابا رفض الاستسلام للضغوط الداخلية والخارجية التي تعرض لها. كما رفض أن يسمح للأقباط المصريين بزيارة القدس.. مما أغضب بعض الذين كانوا يرغبون في زيارتها.. ولكن البابا لم يتراجع وأعلن أن كل من لا يلتزم بالقرار يخرج عن طاعة الكنيسة.. وهي عقوبة كبري يدرك الأقباط مدي قسوتها.
أعلن البابا أنه لن يدخل القدس إلا بصحبة المسلمين.. وأنه لن يقبل أن يضع أقباط مصر موضع اتهام من العرب. كما أعرب أكثر من مرة عن أنه لن يدنس جواز سفره بتأشيرة من السفارة الإسرائيلية.
فجر هذا الموقف العلاقة بين الرئيس الأسبق السادات.. والبابا شنودة. وتطور الأمر إلي عزله من المنصب البابوي.. وفرض الإقامة الجبرية عليه في وادي النطرون.. تلك الإقامة التي استمرت 4 سنوات.. وخرج منها البابا زعيماً سياسياً لا مجرد “أب روحي” للأقباط.
استطاع البابا شنودة أن يحتوي العديد من الفتن الطائفية التي ابتلي بها الوطن. منذ سبعينيات القرن الماضي بعد أن أعلن الرئيس السادات أنه “رئيس مسلم لدولة مسلمة”.. بما يتناقض مع القيم التي رسختها ثورة 1919 “الدين لله والوطن للجميع”.
أطلق السادات العنان للتيارات الإسلامية المتشددة التي خرجت من جحورها لتفرق بين أبناء الوطن الواحد.. ولتشعل الفتن الطائفية التي لم نسلم منها حتي الآن.
فالبرغم من الزيارات المتبادلة بين قيادات الإخوان المسلمين ورموز الكنيسة.. ومشاركتهم في أداء واجب العزاء لقداسة البابا لم تراع القناة التليفزيونية للجماعة “مصر 25” مشاعر المصريين ولا أقول الأقباط وحدهم واستضافت شخصاً قدمه المذيع علي أنه داعية إسلامي كبير يحمل لقب الدكتوراه. لم يجد في مسيرة البابا شنودة إلا أنه قام بسجن أخته “كاميليا” التي أعلنت إسلامها وترفض العودة للمسيحية.
وقد تصدي زميلنا سامح محروس الذي كان ضيفاً في الحلقة للرد عليه والتأكيد علي أن اخته “كاميليا” أعلنت عبر شاشات التليفزيون أنها لم تتخل عن ديانتها.. وكان ينبغي علي المذيع أن يذكر ضيفه بأن التشفي في الموت ليس من تعاليم الإسلام.. ولكنه لم يفعل.
موقف آخر شارك فيه بعض أعضاء مجلس الشعب عن حزب النور الذين رفضوا مشاركة أعضاء مجلس الشعب في الوقوف دقيقة حداد علي فقيد الوطن. مما أثار استياء في صفوف المصريين جميعاً. كما أساء للحزب الذي يدعي أنه يمثل المصريين جميعاً. وهذا لا ينفي أن الموقف الرافض لدقيقة حداداً.. لم يكن جماعياً.. وإنما شارك عدد من المنتمين إلي التيار السلفي في تقديم العزاء إلي الكنيسة ومشاركة زملائهم في الوقوف دقيقة حداداً.
أما القنوات الفضائية الإسلامية.. فقد وصفت الفقيد بأنه “رأس الكفر” و”عدو الإسلام”.. ولا يجوز الترحم عليه.
وقد تصدي للرد عليها علماء الإسلام مثل الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر سابقاً والشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوي بالأزهر سابقاً.. والأستاذة آمنة نصير الأستاذة بجامعة الأزهر. التي أشادت بدوره الوطني.. وطالبت الذين اساءوا للفقيد أن يتعلموا أدب الكلام.. وقالت إن سلوكهم يتعارض مع منهج الإسلام.
وقد عبر المسلمون من مختلف فئات الشعب عن حزنهم العميق وشاركوا مئات الآلاف من الأقباط الذين تزاحموا أمام كاتدرائية العباسية لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة علي جثمان الفقيد الذي كان يضع مصلحة مصر فوق كل اعتبار.. وهو صاحب شعار “مصر وطن يعيش فينا.. لا وطن نعيش فيه”.
رياض سيف النصر
احداث مصر
لا تظلموا البطرك القادم
اضيف بتاريخ: Thursday, March 22nd, 2012 في 13:18