فى كتاب قراءة سياسية للتوراة لشفيق مقار وضح الكاتب الالتباس الذى يروجه الاعلام بين السامية والجنس اليهودى فكتب تحت عنوان : السامية لغة الآتى
لايكاد المرء يقول “يهود” حتى تختلط الأمور بحق.وسامع الكلمة أو قارئها معذور متى أختلطت الأمور عليه وتاه عقله فى الضباب الفكرى الذى تجره اليه وتتركه فيه.فالكلمة تتحدث عن أقوام وأحداث ماأبعد الشقة بين الآن والماضى السحيق من الزمان الذى عاشت تلك الأقوام ووقعت تلك الأحداث فيه،وما أفعل الخلط الذى لم يتوقف طوال تلك الأزمنة بين اللغة والعرق،وبين العرق والدين
وما على المرء،كيما يلم بطبيعة ذلك الخلط ويفطن الى خطورته،الا أن يتفوه بكلمة “سامية”،وسيجد لتوه أن “سامية” هذه باتت كلمة مفتاحية يفهمها السامع أو القارىء_مالم يحازر لنفسه جيدا ويحرص على عقله_بمعنى “يهودية”،ويأخذ ذلك الفهم المغلوط مأخذ البديهيات التى لاتحتمل التساؤل أو التفكير
ذلك رغم أن “السامية” هذه لاهى اسم عرق ولا هى اسم جنس أو عنصر،ولا تصلح لأن تطلق_على سبيل التخصيص_على أى مجموعة بشرية بعينها : فهى تسمية علمية تطلق على فرع من فروع عائلة اللغات الافرو_آسيوية،وهى عائلة جليلة كبيرة العدد تضم_بجانب فرع اللغات السامية_اللغات المصرية القديمة والوسيطة والمتأخرة والديموطيقية والقبطية،ولغات البربر ومنها اللغة التى كانوا يتكلمونها فى ليبيا قديما واللغة الصحرانية واللغة السيوية ولغة الريف،واللغات الكوشية ومنها الصومالية،واللغات التشادية
وماأكثر اللغات التى تندرج تحت تصنيف “السامية”،وعلى رأسها العربية،ومنها_على سبيل المثال لا الحصر_الأكدية والأشورية والبابلية والآرامية والسريانية والكنعانية والفينيقية والحضرموتية والحبشية والأمهرية،ومنها أيضا مجموعة اللغات العبرانية التى تضم العبرية والمؤابية والأدومية
فهو حشد لا يستهان بعدده وتنوعه من لغات منها ما مات ومنها مازال حيا،ولا تقتصر التسمية العلمية التى تطلق عليه،ذلك الحشد العميم،أى “السامية”،على لغة بعينها دون غيرها من لغاته الكثيرة،دع عنك أن تؤخذ التسمية قسرا فتقصر على عرق بعينه،أو “شعب” بعينه،أو أتباع ديانة بعينها،لأنه_حتى ان جاز لأحد أن يأخذ التسمية أخذا من ذلك الفرع من اللغات ليطلقه على الأعراق أو يسمى به الشعوب_لا يجوز أن يكون ذلك الأخذ بغرض التسمية على سبيل الافراد والتخصيص،بل يجب،منطقا وعقلا وعلما،أن تطلق التسمية على كل القوام التى تكلمت فيما مضى لغة مما مات وعلى تلك التى تتكلم اليوم لغة مما زال حيا من حشد تلك اللغات السامية.أما انتزاع التسمية من مدار اللغات،ثم قصرها على قوم بعينهم من كل تلك الأقوام،وجعل “السامية” بذلك هوية عرقية أو حتى قومية لأولئك القوم دون سواهم،فأقل مايمكن أن يوصف به أنه ضرب من الخداع والا عتساف العبثى لا يمكن أن يقبله العقل أو يسلم به الا اذا كان العقل قد ترك ليستدرج الى رمال متحركة غطى سطحها بساتر من الغلط والمغالطة
وليس أدل على خطورة وفاعلية كل ذلك الغلط والمغالطة من أن كثيرين من الكتاب والباحثين الجادين فى الغرب وغير الغرب_دع عنك الساسة وعامة الناس_باتوا يصدقون أن هناك شيئا اسمه “الجنس اليهودى”،ويعتبرون من المسلمات البديهية التى لا تحتمل النقاش أن “سامية” = “يهودية”،وأن “الجنس السامى” هو “الجنس اليهودى”،ويذهبون من ذلك الى التسليم بأن “الصهيونية”=”اليهودية”=”السامية”،ويخلصون من ذلك الخلط كله الى أن رفض دعاوى الحركة السياسية التى اتخذت الصهيونية اسما لها او الاختلاف معها أو التصدى لاطماعها = “معاداة السامية”،أى “معادة اليهود” كبشر_رغم وجود يهود يرفضون تلك الحركة ويعادونها
فأنت ترى الى أين وصل اسم ذلك الفرع من اللغات على عباب موجة المد العاتية التى أهاجتها من أقدم العصور شهوات لا تعرف الشبع : فلم يصبح اسما ل “شعب” أو لقومية،أو لجنس من الأجناس،فحسب،بل امتد وتوسع ليصبح مظلة فكرية/أخلاقية فوق حركة سياسية قائمة على أسس عنصرية وتوسعية لا تعرف الحدود
ولا حاجة بأحد،فى واقع الأمر،الى سوق الحجج على بطلان الادعاءات التى جعلت من الممكن_ابتداء من “العهد القديم”،وانتهاء بالاعلام والبحث “الاكاديمى” والتنويم بالترفيه السينمائى والتليفزيونى والروائى فى زماننا_تحويل العقل الى “لا عقل” يسلم بما بات كثيرون يسلمون به،ولا حاجة الى البرهنة على ما فى كل ذلك من خلط وغلط ومغالطة
لكن “الانجازات” الفكرية التى تمخض عنها الالحاح المكثف على ترديد تلك الادعاءات وبثها الى الحد الذى يبدو أنه أفقد عصرا بأكمله صوابه،تجعل من المحتم العودة مرة تلو مرة الى تفنيد الادعاءات واستظهار طبيعة الغش الكامن فيها
وابتداء،لا وجود للغة سامية واحدة،فهناك_كما قلنا_لغات سامية عديدة ما بين ميتة وحية
كتاب قراءة سياسية للتوراة
تأليف : شفيق مقار
الناشر : رياض الريس للكتب والنشر
لندن قبرص