لقد بات من الواضح لنا الآن أن المثالية الاجتماعية المنبنية على مفاهيم أخلاقية رفيعة،وأول ترنسندنتالية،بل الترنسندنتالية الوحيدة فى العالم القديم،نشأت فى مصر،قبل سنة 2000 قبل الميلاد.،وبات معروفا لنا أيضا أن الكتب التى احتوت ذلك كانت تقرأ فى القدس فى أزمنة لاحقة وأن من بين من قرأوها مؤلفى الكتابات التى نعرفها الآن باسم “العهد القديم”.والواقع أنه لم يكن من الممكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك
فتماما كما أن آداب أوروبا الحديثة ترعرعت فى رحاب تراثنا القديم الذى أخذناه عن اليونان والرومان وتشبعت به،كان بالمثل_مما لا مهرب منه،فى فلسطين،أن يتأثر العبرانيون تأثرا بالغ العمق،فى تفكيرهم وفى كتاباتهم،بأدب الأمة العظيمة،مصر،التى ظلت فلسطين اقليما من أقاليمها،ثقافيا وسياسيا،لأمد طال قدر ما طال تسلط روما على بلاد الغال
وحقيقة الأمر أن نتائج القياس الجوهرية التى شكلت أساس معتقداتنا الأخلاقية وما زالت تلهم حياتنا المتحضرة الراهنة،كان المصريون قد توصلوا اليها قبل أن يكون للعبرانيين وجود فى فلسطين
وعندما استوطن العبرانيون فى فلسطين،وجدوا أن تلك المعتقدات الأخلاقية المصرية كانت متاحة،كتابة،من قبل استيطانهم بقرون
وهكذا فانه لا ينبغى أن يغيب عنا أبدا أن ما نغبط أنفسنا عليه من قيم أخلاقية تشكل أساس المجتمع المتمدين تعود منابعها الى ماسبق “عصر الوحى” بآماد طويلة،ولا ينبغى أن ننسى أن ذلك النبع وجد قبل أن يكون لكتابات العبرانيين وجود
وبذا،فان منابع تراثنا الأخلاقى أبعد ما تكون عن الانحصار فى تلك الكتابات العبرية،ويجب أن نعترف بأنها،تلك المنابع،كانت فى الحضارة المصرية
والسبب فى أن الكتابات العبرية كانت القناة التى وصلنا عن طريقها ما استمد من تلك المنابع المصرية كان نزول ستار على الحضارات الشرقية القديمة التى انبنت عليها ثقافة العبرانيين.فنتيجة لفقدان القدرة على التواصل مع الحضارات القديمة بسبب العجز عن فك شفرة كتاباتها ولغاتها،لزمت تلك الحضارات الصمت،فيما يخصنا،منذ ألفى سنة.وبصمتها ذاك،تركت كتابات العبرانيين وحدها فى الساحة لتضىء (بما استمدته منها) كنبراس وسط الظلمة الحالكة المطبقة.أن الكشوف العلمية الحديثة واستعادتنا لبعض قنوات التواصل مع تلك الحضارات قد سلطت ضوءا جديدا أخذ يبدد الظلمة ويحيط اسرائيل بوهج أقدم من نبراسها ببضع آلاف من السنين
والواقع أنه لولا أن العالم الغربى كان قد فقد لوقت كل معرفة بأصول الحضارة ومسار تطورها،لما كان قد خطر لأحد أن يضع التاريخ العبرانى أى موضع خلا موضعه الحقيقى،كنتاج أفضى اليه تطور طويل للأخلاق والدين سبق ذلك النتاج وأدى اليه.ومن المؤكد أنه لولا الافتقار الى تلك المعرفة بمنابع الحضارة ومسار تطورها لما أمكن أن يكون هناك وجود لعقيدة لاهوتية تدعى تفرد شعب واحد بعينه دون شعوب العالم جميعا بخصوصية تتمثل فى اقتصار الوحى الالهى عليه وحده،وهى عقيدة قد أعمتنا طوال قرون عن الطبيعة المشتركة لتراثنا الروحى السامق الذى لا سبيل الى قصره على تاريخ أو خبرة أى شعب واحد بعينه
شفيق مقار
من كتابه الهام
السحر فى التوراة والعهد القديم
ص 409 و 410