لا يزال الفلاح المصرى البسيط يثبت للدنيا أن ذكاءه الفطرى يضرب أى جامعة عالمية بالبلغة القديمة، فالمَثَل القائل “قال يا فرعون ايه فرعنك؟ قال مالقتش حد يلِمنى” (والذى لا شك أن قدماء المصريين كانوا أول من جاء به قبل أن يسرقه الخواجة ويحرفه إلى “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” كى يخفى عن العالم سبقنا فى كشف خبايا الفرْعنة) تم إثباته علمياً عام 1971 فى تجربة شهيرة عُرفت بإسم “سجن ستانفرد”[1]. وفيها قام العلماء بجلب مجموعة من 24 متطوعاً لإجراء إختبار نفسى على تأثير السلطة التى لا يقيدها شىء -أو الفرعنة بمعنى أصح- على نفسيات وسلوكيات البشر. قبل أن أروى لك تفاصيل التجربة يا قارئى العزيز لابد أن تعلم أن المتطوعين أُختيروا على أساس الذكاء والصحة والمستوى الإجتماعى المتوسط، أى أنهم يمثلون عينة عادية بل فوق العادية من المجتمع ولم يكونوا مرضى نفسيين أو من أصحاب السوابق، وهذا بالضبط ما جعل نتائج التجربة أكثر ترويعاً كما سترى..
بدأ العلماء بتقسيم المتطوعين إلى مجموعتين عشوائياً، إحداهما تقمصت دور “السجناء” والأخرى تقمصت دور “الحراس”. وما حدث أنه فى أول ليلة أيقظ الحراسُ المساجينَ من النوم بعد منتصف الليل لإعطاء كل منهم رقماً بدلاً من إسمه حتى يقتلوا إحساسه بفرديته، ثم بدأوا بإجبارهم على ممارسة تمارين الضغط كنوع من العقاب البدنى. ثانى يوم بدأ السجناء فى التمرد فنزعوا أرقامهم وبدأوا بسب الحراس من خلف أبواب الزنازين، وتلك الليلة بدء الحراس برش طفايات الحريق على السجناء وأجبروهم على التعرى ووضعوا بعضهم فى الحبس الإنفرادى، بعد ذلك منع الحراس بعض السجناء من الذهاب لدورة المياه وأجبروهم على قضاء حاجتهم فى دلو فى زنازينهم، ولزيادة الإهانة لم يكن يُسمح لهم أحياناً حتى بإفراغ الدلو. خلال ستة وثلاثون ساعة من بدء التجربة أُصيب بعض “السجناء” بإنهيار عصبى، وتوّجت وسائل الإهانة بإجبار السجناء على تنظيف الحمامات بأيديهم وعلى إتخاذ أوضاع شاذة جنسيا، وتم إلغاء التجربة بعد ستة أيام بدلاً من أسبوعين نظراً لخطورة الموقف. وأبدى التحليل النهائى أن حوالى ثُلث الحراس كان يبالغ ويستمتع بتعذيب السجناء، بينما الثلثين تراوحا بين الصرامة وإظهار بعض اللطف رغم أن أحداً منهم لم يعترض فيما يبدو على تصرفات الثلث العنيف، إلا أن معظمهم كان حزيناً على إنهاء التجربة مبكراً! ولسببٍ ما تذكرنى هذه التجربة بأقسام الشرطة لدينا.
وأيدت نتائج تجربة سجن ستانفرد بطريقة غير مباشرة تجربة أخرى أثبتت أن أى جماعة من الناس إن رأت واحداً منهم يغش فى إختبار وضمنوا أنهم أمرهم لن يُكتشف فسيزيد إحتمال غشهم[2](وذكرتنى تلك التجربة أيضاً بالمحروسة ولا أدرى لماذا).
وتلك المشاهدات تصب جميعها فى خانة واحدة، وهى وجود قواعد ثابتة تتحكم فى السلوك الإنسانى سواءاً إنتبهنا لها أم لم ننتبه، وهذه القواعد من ضمنها أن الإنسان -فى مجتمعنا الحديث على الأقل- كالبركان الملىء بالشر ولابد له من شىء يكبته وإلا إنفجر وأغرق كل شىء، وأن عدم وجود رقابة خاصة مع فساد البيئة المحيطة يؤدى تلقائياً لفساد الفرد، وأننا لسنا شخصيات مستقلة كما يحلو لنا أن نتخيل، بل نتصرف بدرجة كبيرة جداً فى حدود ما تهيئه لنا البيئة المحيطة من ظروف ولذا فلابد من رادع يوقف “تمددنا” عند حدود معينة.
ومن الناحية العملية ندرك أكثر وأكثر أهمية إقامة نظام سياسى واقتصادى مبنى على اللامركزية لا يعطى الفرصة لمجموعة أفراد أو مؤسسات باحتكار أى شىء بداية من رغيف الخبز وحتى القرارات المصيرية، وفى حالة ضرورة منح بعض السلطة لأفراد من أجل التنظيم فيكون ذلك مقروناً بالقيود الصارمة والمحاسبة والمساءلة، لأن المسؤول مهما كان نقياً وطاهراً فما هى إلا مسألة وقت فى ظل غياب كامل للرقابة حتى تَخرج الطباع السيئة من داخله كما أشارت إلى ذلك الأمثال الشعبية والمشاهدات التاريخية من قبل التجارب الحديثة.