شفيق مقار يكتب : ماعلاقة “سفر الرؤيا” بأخذ فلسطين ومخطط بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى؟
مقال جاد لقارىء جاد وصبور
كل كتاب،ككل مولود،له “بذرة”.له ابتداء فى الروح.له بويضة يخصبها شىء ما،أو حدث ما،أو حلم،أو نبأ،أو فكرة،أو حتى كلمة أو جملة عابرة تلتقطها الأذن فى الطريق.
كتب التوراة،مثلا،التى أكتمل منها حتى الآن مجلدا “قراءة سياسية للتوراة”،و “السحر فى التوراة”،أخصبت بزرة البحث الطويل الذى أثمرها ادمانى فى مرحلة من مراحل العمر على قراءة “سفر الرؤيا” الذى ذيل به “العهد الجديد”.فتلك الرؤيا تسلطت على،ركبت رأسى،ونغصت عيشى.وكانت النتيجة الأولى لكل ذلك كتابتى لها بعنوان “رؤيا مهنا الطاغوطى”.وعندما نشر ماكتبت،فى أكتوبر 1969 ،قاطعنى البعض لأنهم رأوا فيه “اجتراء على الكتاب المقدس”.وآلمنى ذلك كثيرا،لأنى لم أكتب ما كتبت اجتراء،بسوء نية وخبث طوية،بل كتبته انصياعا لذلك الالحاح الداخلى الذى يعرفه جيدا كل من استدرج الى كتابة ما هو جدير بأن يكتب : ذلك الالحاح القاعد الصفيق الذى،متى بدأ،لا يهمد،فيواظب على السؤال ويلحف : ما الذى يجعل هذا الشىء أو هذا الشخص ما هو؟ وما الذى يجعله يفعل هذا ولا يفعل ذاك؟ ولم ؟ و كيف؟ ومتى؟ ولأية غاية؟ أسئلة بلا نهاية.وكل سؤال تتولد عنه،بتلقيح ذاتى،أشكال جوع لا يعرف الشبع.وهكذا فانى_عندما استدرجت،فانصعت،وكتبت “رؤيا مهنا الطاغوتى”،لم أكتبها اجتراء على “رؤيا يوحنا اللاهوتى”،بل استجلاء لسرها.كنت فقط أريد أن أعرف.وذلك فضول مشروع،لولاه لظل أجدادنا قردة مشعرة قبيحة تهمهم فى كهوفها.كنت أريد بضع اجابات شافية لكل تلك الأسراب من الأسئلة التى انطلقت كأنما من عش زنابير،وظلت تطن فى رأسى.وكانت محاولتى،فى تلك المرة،أنى وضعت قدمى فى حذاء اللاهوتى،كما يقولون،أنى تقمصته من خلال اعادة كتابة رؤياه.ووقتها بدا لى أنى كنت قد نفضت يدى من تلك الحكاية وارتحت من الحاحها.لكنى كنت مخطئا،كما اتضح لى قبل انقضاء وقت طويل.فالمحاولة التى قمت بها اعتمدت على الحدس وركبت حصان المخيلة،فلم تكشف سر اللاهوتى،بل أوقعتنى فى حبائله. ورويدا رويدا،بدأ الالحاح يعاودنى،صفيقا أكثر من أى وقت مضى،لحوحا بأكثر مما بدأ.ودون أن أدرى،وجدتنى متورطا فى محاولة جديدة،لم يخطر لى عندما أفقت فوجدتنى غارقا فى متاهاتها أنها سوف تطول لأكثر من عشر سنين،وأنها ستتسع وتتشعب فتجرنى الى دهاليز السياسة فى التوراة،وغوامض السحر،وخبايا الجنس،ودموية العنف فى العهد القديم الذى ألصق به عهد “جديد” ذيل بحاشية كابوسية عنوانها “رؤيا يوحنا اللاهوتى”.
وفى رحلة ذلك البحث التى طالت وأفرخت رحلات،وجدتنى_كلما بددت المعطيات ضبابا،ومزقت الحقائق نسيج عناكب،وأزاحت المقارنات أستارا كثيفة مخملية مشربة بمصل القداسة مسدلة بفعل أيد قادرة،ستارا فوق ستار فوق ستار،بعضها بلون الليل،وبعضها بلون الدم،وبعضها قرمزى بلون العشق والشهوة،وبعضها مرصع بالنجمة كأردية السحرة_مستدرجا الى أركان قصية من المخاوف والشهوات والخرافات القديمة،وكهوف ومغارات خبيئة،فيها عظام نخرة وجماجم،وفيها كنوز كثيرة منهوبة.
وكما حدث لى قبلا عندما أعدت كتابة رؤيا اللاهوتى،فخوصمت وقرعت،خاصمنى آخرون عندما نشر أول اكتشاف قادتنى اليه تلك الرحلة المخيفة والممتعة،”قراءة سياسية للتوراة”،لأن أولئك الآخرين رأوا فيه “تشكيكا فى أسس الكتاب المقدس”.ولا يخالجنى شك فى أن اكتشافى الثانى،”السحر فى التوراة والعهد القديم”،سوف يحدث آلاما فظيعة للبعض،ويجعل عيونا تقية مسبلة مطمئنة الى ايمانياتها عديمة التساؤل تحملق الى،محمرة غضبا،قاذفة شواظا من نيران عقيدة أو أخرى،لأن بحثى قادنى الى اكتشاف السحر كامنا تحت الجلد،فاعلا فعله فى الروح والعقل والضمير.أما الكتاب الرابع الوشيك،”الجنس فى التوراة والعهد القديم”،فلا أريد أن أفكر فيما سوف يحدثه لدى أى قابع فى كهفه.لكنى لا حيلة لى فى كل تلك الخبايا التى تظل تكشف عن نفسها ولا تكف عن الهمهمة فى السمع طالبة الخروج الى ضوء النهار.
وهو مايقودنا الى هذا الكتاب.فهو أيضا،وبشكل أساسى،بحث فى خبايا التوراة وسائر أسفار العهد القديم وكتابات اليهود،وبخاصة ما تعلق من كل ذلك بعقيدة المسيح المنتظر،وما باشرته اليهودية من تأثير فى معتقدات مسيحية نجدها_فيما يقودنا اليه العقل ومنهج البحث_كامنة فى جذور ما يعانيه العالم اليوم،وسوف يعانيه غدا بشكل أفظع،من أهوال صراعات مدمرة تتركز_مرحليا_فى منطقة الشرق الأوسط التى بدأت فيها الحكاية أصلا.
ولقد كانت لهذا الكتاب_كغيره_بزرة هى الوعى المتعاظم فى سياق البحث بالعلاقة الوثيقة بين الرسم الهندسى للحركة الصهيونية وأساسيات الديانة اليهودية،ومشكلة التصميم اليهودى على بناء الهيكل الثالث.وفى حالة هذا الكتاب،أسهمت فى اخصاب تلك البزرة مخصبات عديدة،أولها العلاقة الحميمة بين “رؤيا يوحنا اللاهوتى” وبين نكبة فلسطين ومخطط بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى،وظاهرة تخليق ما بات يعرف باسم “اليهو_مسيحية” ليكون مرحليا حلفا يهوديا/مسيحيا ضد الديانة التوحيدية المنافسة،الاسلام،وهو دين السواد الأعظم من سكان المنطقة الهدف الأول للحركة الصهيونية،الشرق الأوسط،وظاهرة الانتماء المسيحى من خلال ايمانيات البروتستانتية الى اليهودية،وظاهرة احياء حركة الزيلوتية ممثلة فى شيع المؤمنين اليهود وبخاصة “مؤمنى الهيكل”،وتعاظم تيار الانتماء العبرانى لدى المسيحيين فى الغرب الى حد الانضواء الكامل وعبادة اسرائيل،وظاهرة استشراء الأصولية الدينية لدى الغرب المسيحى،وفى الولايات المتحدة بالذات،والدور الكبير الفعالية الذى يقوم به ذلك التيار الأصولى فى تنفيذ وتطوير المشروع الصهيونى.
لا هى مسألة أصوات ناخبين يهود، ولا هى مسألة مشاعر ذنب تجاه اليهود،بل مسألة سطوة غريبة للحركة الصهيونية على ضمائر وعقول ومواقف وتصرفات الساسة والحكام والمشرعين وصانعى القرار وصناع الرأى فى بلدان الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة،نتيجة لحيازة الحركة الصهيونية واستخدامها عديم التورع لثلاثة أسلحة بالغة المضاء مسددة الى صدور ورؤوس أولئك الساسة والحكام والمشرعين وصانعى القرار والرأى،هى :
أولا : سلاح التشهير والابتزازالذى تستخدمه الحركة فى التهديد بالاغتيال المعنوى أو فى التحقيق الفعلى لذلك الاغتيال لأى حاكم أو سياسى أو مشرع بفضل ما هو مجمع لدى المنظمات اليهودية من ملفات كاملة عن كل شخصية عامة فاعلة على الساحة السياسية.1
ثانيا : سلاح المال الذى تستخدمه الحركة منحا ومنعا والذى يصعب النجاح انتخابيا أو البقاء ديموقراطيا بدونه صعوبة تقرب من الاستحالة.1
ثالثا : سلاح غسل المخ الجماهيرى الذى يستخدم بفاعلية قصوى نتيجة لتملك المال اليهودى تملكا شبه كامل لوسائط الاعلام وأدوات صنع الرأى والمواقف وتملكه لضمائر وعقول وجيوب السواد الأعظم من المشتغلين بتلك الأنشطة وتحكم الحركة الصهيونية،بالتالى،فى صنع الآراء والمواقف وسوق الجماهير العريضة مثلما تساق القطعان.وهذا سلاح يمكن الحركة الصهيونية من الاستخدام الأمثل لسلاح التشهير والابتزاز والاغتيال المعنوى،ويدعم بقوة فى الوقت عينه استخدامها لسلاح المال فى “بناء” و “بيع” الحكام والساسة والمشرعين أو هدمهم والقضاء على المستقبل السياسى لمن يحرن منهم.1
هذه جميعا أسلحة شديدة المضاء فى مجتمع “ديموقراطى مفتوح”،خصوصا وهى تستخدم بذكاء وفى خفاء وراء واجهة محكمة من الاندماج فى المجتمع الهدف (أو،بالحقيقة،المجتمع المستعمر من داخله)،والتظاهر بالايمان بقيمه،والحرص على مصالحه،والرغبة فى الذود عنه.1
ولكن هل هذه الأسلحة على مضائها هى كل عتاد ترسانة الحركة الصهيونية التى أتاحت لها تحويل القوة العظمى،الولايات المتحدة الأميريكية،الى شبه مستعمرة وبلد تابع،ومكنتها من جعل حكام تلك القوة العظمى،وساستها،ومشرعيها،بتواطؤ شبه كامل من صناع الرأى فيها،يعلون كل وأى مصلحة للحركة الصهيونية ومحطتها الأولى اسرائيل على كل وأى مصلحة قومية لبلدهم،بل وعلى سلام العالم وبقاء البشرية؟
يبدو من غير المقبول عقلا ومنطقا،واستقراء للاتجاهات والمواقف والأحداث،أن تكون تلك الأسلحة،على مضائها،هى ما مكن الحركة الصهيونية من احكام قبضتها،بالشكل الذى يشهد العالم نتائجه،على عمليات صنع القرار وصنع الرأى فى الولايات المتحدة أو غيرها من بلدان “صديقة” لاسرائيل.لأنه_مهما كان سلاح غسل المخ فعالا،ومهما كانت تبعية الحكام والساسة والمشرعين كاملة_يظل هناك الاعتبار الذى لا ينبغى اغفاله فى أى تقييم واقعى للوضع،وهو كون المجتمع الأميريكى،وغيره من مجتمعات مثيلة،مجتمعا “ديموقراطيا مفتوحا”،مهما كانت نواقصه وعيوبه.فمجتمع كهذا يصعب فيما يخصه كثيرا_وأيا كانت فعالية وسائط الاعلام،تشهد بذلك المعارضة شديدة التصميم لحرب فيتنام،مثلا_اخضاعه قسرا للسطوة الصهيونية على مقدراته ومواقف قادته وزعمائه وابقائه تحت وطأة ذلك القسر كما لو كان ذلك المجتمع كما سلبيا يتلقى المثيرات ويستجيب لها بطريقة نمطية دون أدنى تدخل من عقول ومواقف وخلفيات أفراده.1
لابد أن هناك اذن،فى العمق،وفى الخلفية الثقافية،ما يجعل الأميريكيين أو غيرهم يخضعون كأمم،فيقبلون ويستجيبون للمثيرات المنصبة عليهم.بمعنى أنه كيما تمارس الحركة الصهيونية فعلها فى تلك المجتمعات وتستخدم أسلحتها،لابد أن يكون ما يمكنها من ذلك الفعل والاستخدام مكونا أساسيا من مكونات الخلفية الثقافية للشعب الهدف.1
والسؤال الذى ينبغى أن يتوقف عنده العقل فى هذا الخصوص هو :1
“هل يمكن للحركة الصهيونية أن تمارس ذلك الفعل وتستخدم تلك الأسلحة بشكل ايجابى فعال ومحدث للنتائج المطلوبة فى مجتمع كالمجتمع اليابانى،مثلا”.1
فى محاولة ايجاد اجابة على هذا السؤال عن مثل هذا الوضع الافتراضى،يرجح أن يجد العقل أن ممارسة الفعل الصهيونى واستخدام الأسلحة المستخدمة فى استعمار المجتمع الأميريكى من داخله يغلب أن يكون متعذرا فى مجتمع كالمجتمع اليابانى.بل وربما وجد العقل،من واقع الحال فيما يخص المجتمع اليابانى،أن عنصرا من عناصر النجاح اليابانى الذى يبدو مذهلا لكثيرين تمثل من مبدأ الأمر فى كون المجتمع اليابانى ظل بمنجاة من ممارسة الفعل الصهيونى واستخدام الأسلحة الصهيونية المستخدمة فى غيره من المجتمعات،وأنه ظل بمنجاة من ذلك لأن خلفيته الثقافية مختلفة عن الخلفية الثقافية المشتركة لتلك المجتمعات الأخرى.1
فاذا ما تقدم العقل خطوة صوب استظهار الفوارق الأساسية بين الخلفية الثقافية للمجتمع اليابانى والخلفية الثقافية المشتركة للمجتمعات الأخرى التى تمارس الحركة الصهيونية فعلها فيها بنشاط ونجاح،قادته تلك الخطوة الى الدين،وهو بغير شك من المكونات الأساسية لأية خلفية ثقافية لأى شعب أو مجموعة من الشعوب.1
فهل للدين دور فى صنع وتكييف وتوجيه الدور الأميريكى بخاصة والغربى بعامة فيما يخص مسيرة المشروع الصهيونى؟
هذا تحديدا،هو ماينصب عليه البحث فى هذا الكتاب سعيا الى استظهار : 1
أولا : ما اذا كان للدين فعل فى صنع وتكييف وتوجيه ذلك الدور
ثانيا : استظهار نوعية ذلك الفعل ومحاولة القاء ضوء على بعض خباياه
ثالثا : استظهار بعض ما يمكن أن يفضى اليه ذلك الفعل الدينى،ان وجد،لا بالنسبة للبشر فى منطقة الشرق الأوسط فحسب،بل وبالنسبة لهم فى عالمنا المعاصر،فيما وراء الحدود الجغرافية لتلك المنطقة.1
تحفظ واحد ينبغى_للأسف_أن يساق،هو أن هذا ليس كتابا فى الدين لكنه بحث موضوعى فى دور الدين فى السياسة،وفعل السياسة فى الدين فيما يتعلق بقضية انسانية وجيوبوليطيقية قد يتبين فى خاتمة المطاف أنها أخطر ما واجهه نوعنا البشرى فى تاريخه.1
حزيران/يونيو 1990
شفيق مقار
مقدمة كتاب المسيحية والتوراة لشفيق مقار
بصراحة انا مش فاهمة حاجة خالص … ياريت تبصت الاسلوب شوية