ليس حدثاً أن يخلع المشير محمد حسين طنطاوي زيه “الميري” وأن يرتدي “بدلة ملكي” مثله مثل الملايين من المدنيين. ومع ذلك فإن “بدلة المشير” تحولت إلي حدث سياسي بامتياز يدور حوله جدل بالغ السخونة. وهو جدل بعيد عن “الهيافة” أو التنطع في أغلبه الأعم كما قد يبدو للوهلة الأولي.
وتعود “الجدية” في الجدل حول “بدلة المشير” إلي وضعهما في سياقهما الزمني والمكاني.
فمن حيث المكان فوجئ الناس بوجود المشير طنطاوي بينهم. دون حراس ودون زفة إعلامية. “وسط البلد” بالقرب من ميدان التحرير. الذي أصبح رمزاً لثورة 25 يناير. ثم أصبح حاضنا لمليونيات متتالية للمطالبة باستكمال تحقيق أهداف الثورة بما انطوت عليه بعض هذه المليونيات من نقد ضمني تارة وصريح تارة أخري للمجلس الأعلي للقوات المسلحة. وعلي رأسه المشير طنطاوي. لما يراه البعض تلكؤاً عن تحقيق هذه الأهداف الثورية.
ومن حيث الزمان جاء ظهور المشير طنطاوي ببدلته “الملكي” بالقرب من ميدان التحرير قبيل مليونية مرتقبة غداً الجمعة لرفض الطوارئ والمطالبة ببرنامج زمني لتسليم السلطة ورفض تعديلات قانون مجلسي الشعب والشوري. أي أن ظهور المشير جاء في وقت يتصاعد فيه الاحتقان واتساع شقة الخلاف بين توجهات المجلس الأعلي للقوات المسلحة من جانب والغالبية العظمي من القوي السياسية وائتلافات الثورة من جانب آخر.
وهذا التوقيت جعل الكثيرين ينظرون إلي لفتة المشير طنطاوي باعتبارها محاولة لإذابة الجليد المتراكم بين المجلس العسكري وملايين المصريين.
يضيف البعض سبباً آخر هو أن لفتة المشير طنطاوي تأتي في أعقاب إدلائه بشهادته في قضية المتهم حسني مبارك وولديه علاء وجمال ووزير داخليته حبيب العادلي وستة من كبار معاونيه. ورغم سرية الجلسة التي أدلي فيها المشير طنطاوي بشهادته. وحظر النشر عنها. فإن ما تسرب عنها أشار إلي أن الاتجاه العام لهذه الشهادة هو تبرئة مبارك والعادلي. الأمر الذي أثار قلق البعض وسخط البعض الآخر نظراً لما يظن هؤلاء وأولئك أنه يمكن أن يؤدي إلي إلقاء طوق نجاة للرئيس المخلوع وهروبه من القصاص العادل.
في هذا السياق تأتي اللفتة التي قام بها المشير وكأنه يحاول مصالحة المصريين العاتبين عليه أو المصدومين مما تسرب عن شهادته.
لكن بعض الخبثاء لا يتوقف خياله عند الحدود المشار إليها في السطور السابقة. وإنما يذهب إلي ما هو أبعد بكثير. ويري هؤلاء أن لفتة “البدلة” والظهور المفاجئ للمشير طنطاوي علي هذا النحو إنما يوحي بجس نبض تمهيداً لانضمامه إلي السباق الرئاسي وترشحه لهذا المنصب الرفيع الذي لا تريد المؤسسة العسكرية تركه لأحد من خارجها.
وفي رأي هؤلاء فإن ذلك يتناقض مع الإعلان المتكرر من جانب المجلس العسكري بأنه مصمم علي تسليم السلطة للمدنيين في أقرب وقت.
وأياً كان سبب قيام المشير بهذه الجولة وبهذه الطريقة فإن الجدل الواسع الذي أثارته هذه الجولة يفتح لنا زاوية أخري تستحق التأمل.
فلو أن باراك أوباما رئيس أكبر دولة في العالم أو نظراءه من رؤساء الدول العظمي فعل ما فعله المشير طنطاوي -وهم يفعلون ذلك وأكثر- لما أثار ذلك أي ردود أفعال. ولما اهتم به عامة الناس. ناهيك عن القوي السياسية سواء من المعارضة أو الموالاة.
فالطبيعي والعادي ان يمارس رئيس الدولة الديمقراطية حياته مثل سائر خلق الله. وغير الطبيعي وغير العادي ان ينعزل عن شعبه أو يتعالي عليه. وأظن أن القارئ أو المشاهد غير المصري. وغير العربي ستصيبه الدهشة وعدم القدرة علي فهم اهتمامنا الزائد برؤية المشير سائراً علي قدميه في شوارع المدينة مثله مثل أي مواطن عادي.
إنها رواسب الاستبداد.. التي جعلتنا نتعامل مع الحاكم علي أنه “إله” أو “نصف إله”. وبالتالي نعتبر مجرد ظهوره بين أبناء شعبه نوعاً من “التنازل” أو “التفضل” الذي يحتاج إلي شكره والثناء عليه والتسبيح بحمده وفقاً لأصول أدبيات النفاق القديمة أو لغزاً غامضاً يحتاج إلي تفسير وتبرير وفقاً لنظرية المؤامرة التي اعتدنا إدمانها طويلاً وهذه كلها ليست افتراضات نظرية وإنما هي وليدة تجارب مريرة مع الكثير من حكامنا الذين أذاقوا المر لشعوبنا الغلبانة.
وأظن أن ثورة 25 يناير تمثل -كما هو مفترض- قطيعة مع هذه الذهنية العبودية في التعامل مع حكامنا الجدد. أياً كانوا. لأن كل من يجلس علي كرسي المسئولية بكافة مستوياتها بما في ذلك كرسي الرئاسة. ليس سوي “خادم مدني” يأتي بإرادة الشعب ويعزله المصريون الذين منحوه تفويضاً نسبياً وليس مطلقاً ويستطيعون سحب هذا التفويض عند اللزوم.
وهذا مجرد ملمح من الملامح الأساسية للدولة المدنية الحديثة التي نحلم بإرساء دعائمها.
وبمناسبة ذكر الدولة المدنية الحديثة فإن خفة دم الشعب المصري فرضت نفسها قبل وبعد التحليلات والتكهنات السياسية لجولة المشير طنطاوي في شوارع وسط البلد. فانطلق سيل من التعليقات الشقية والمشاغبة وخفيفة الظل علي “بدلة المشير”. من بينها تعليق يقول أن “الشعب يريد دولة مدنية وليس بدلة مدنية”!
سعد هجرس
احداث مصر
بدلة المشير
اضيف بتاريخ: Thursday, September 29th, 2011 في 06:46
كلمات جريدة احداث: احداث, احداث مصر, مصر
كـلام مـحـتـرم ويـجـب أن يُـحـتـرم