هذه مقالة شديدة الأهمية عن المنظومة التعليمية والثقافية التى ننشدها،واللازمة للنهوض بمصر للدكتور/ طارق على حسن :
هل يمكن أن تنمو حركة نقد فني وموسيقى بمصر في ظل سيادة مفهوم قاصر عن الفن؟
الأستاذ الدكتور زين نصار قدم أول تأريخ موضوعي و حيادى للمؤلفين المصريين المعاصرين وقدم بذلك نقطة بداية ضرورية لتقييم الوضع الراهن.
ويلاحظ أن الأفكار و الاقتراحات التي تتقدم للتطوير تتحرك بإزمان من خلال افتراض الوضع الحالي كنقطة بداية وواقعنا الأليم واقع عملي يقتضي الأمر التعامل معه و تحسينه بقدر الامكان و لكن لا فرار منه و لا خروج!
و لكن سأتخذ مدخلا آخر لا يفترض بالضرورة ان الوضع المفاهيمي الحالي هو ناموس لا يمكن الفكاك منه بل يفترض فى ظل التحدي الهائل الذي نعيشه أن تغير الوعي ممكن و جائز بل و ضروري.
و يشجع هذا المدخل المختلف أننا نعانى، مما سميته في مجالات أخرى، خلط مفاهيمي فى مجال التقسيم الضروري للمعرفة، يؤثر تأثيرا جذريا و سلبيا على فهمنا و تقيمنا للفنون دورا و حتي تعريفا من الأساس. من ذلك أننا لم نصل بعد إلى تقسيم علمي مقنع للمعرفة. و المتفق علميا أن المعرفة البشرية ترجع إلى ثلاث روافد أساسية: المعرفة التنزيلية و المعرفة العلمية و المعرفة الفنية.
ولا يمكن أن نتصور تطوير حركة نقد فني أو موسيقى حقيقي و مؤثر بدون تغيير نوعى أو بالأحرى تصحيح في الوعي الجمعي للمجتمع بالنسبة إلى ماهية الفن و تطور الوعي العام و وعى القيادات التعليمية و الثقافية و السياسية إلي مرحلة اعتبار الفن أحد الروافد الأساسية للمعرفة و ليس مجرد أداة للتسلية و اللهو و شغل وقت الفراغ، و الفنان فى وعى المجتمع يرقي إلي مكان مواز للفيلسوف و المفكر و العالم و الفقيه فهو شريك لكل هؤلاء فى جهادهم النبيل المستمر لتوسيع دائرة المعرفة و قدرات تطبيقها فى المجتمع الذي ينتمون إليه.
و لو افترضنا أن الوعي الجمعي للمجتمع تبلور فى صورة فرد أو كيان نسأله السؤال البسيط ما هو الفن؟ وما هي الموسيقى؟ لوجدنا إجابات حائرة متناقضة، بعيدة كل البعد عن الوعي بالفن و الموسيقى كوسيلة من وسائل المعرفة و الاستكشاف و أقرب إلى الوعي بالموسيقى كمنمنمات جميلة مسلية لها ألحان لطيفة و إيقاع جميل مثير مستمر تصاحب الشعر و الكلام الجميل عن الحب و الوطنية، تثير حماس الجيوش و تسلى الشعب و تطربه وتصاحب الأفلام السينمائية و المسلسلات التلفزيونية، و عند اللزوم تهدئ الأعصاب إذا كانت جميلة و هادئة.
بل لقد لاحظت أن التعبير الذي استعملته مرارا من أن الموسيقى رافد أساسي للمعرفة، و من وسائل تكوين النسق المعرفي و السلوكي و الإبداعي للمخ الإنساني، و أحد المداخل الرئيسية المسؤولة عن وضع الأسس فى التركيبة الفردية و الاجتماعية لفهم قيمة العمل التراكمي و التنسيق و الهارمونية و السيمفونية التي تنبثق من التعددية و التناقض، وأن الموسيقي مدخل تربوي أساسي في التدريب علي عمل الفريق وعلي فهم قيمة الوقت و التوقيت، و أننا كنا و لا زلنا نعاني أشد المعاناة من افتقاد هذا الوعي ، تثيرتلك الرؤيا في الكثير من المستمعين الضحك و السخرية و العدوان أحيانا، فالوعى الجمعي لا يزال يرى الفن و الموسيقى كتسلية و طرب و شغل لوقت الفراغ أو كبكاء و لطم خدود و ميلودراما. و الموسيقى بالذات تعانى من الظلم الذي اصبح طبيعة ثانية. و لا نزال نقول بيتهوفن ملحن مشهور لحن السمفونية التاسعة و فيردى لحن أوبرا عايدة و موزار لحن أوبرا زواج فيجارو و لحن أربعين سيمفونية و لا نجد غضاضة فى اختزال الإضافة الهائلة التى حققها هؤلاء الرواد العباقرة فى الفكر و الأداء و الوعي الإنساني وفي تربية و تنشئة و تقدم المجتمعات و الأمم و فتح أبواب الإبداع أمامها، الى مجرد انهم ملحنين نجحوا فى تخليق بعض الألحان الجميلة أما أسرار البنيان التراكمي السيمفوني فنحن نرفض أن نعي بها و نرفض أن نعترف بإفتقارنا إليها و إلي وسائلها .
و إذا أصابت الصدمة القارئ او المستمع فإنني أحيلة الى ظاهرة غياب الموسيقى السيمفونية البوليفونية المعمارية غيابا شبة كامل من مجتمعاتنا. و الى خلطنا الذي اصبح طبيعيا تماما بين المؤلف الموسيقى و الملحن و بين موسيقى مصاحبة الكلام و الغناء و الأفلام و الفيديو كليب و بين الدراما الموسيقية ذات التركيب التطوري السيمفوني كما نراها فى الإنجازات القمية.
فمن أي منظور و من أي أرضية إذا ينبع النقد الفني أو الموسيقى؟ و الوعي العام على ما هو عليه و نحن نرصد:
11.غياب الوعي عموما بدور الفن فى حركة التحول البشرى و اسألوا قيادات الجامعات المصرية، و هذا ليس غريبا منذ التحول و القرار السيادى بأن تصبح المناصب القيادية فى كل مجال مناصب ولائية سياسية و ليست مناصب تنبع طبيعيا من القواعد بناءا علي الكفاءة و النجاح في الخدمة والإنتاج و الانتماء المجتمعي (راجع الأوراق المقدمة في ندوة إستقلال الجامعات المنعقدة في جامعة القاهرة في 9 مارس 2004)
2.غياب عام للفن التعددى البوليفونى و غياب شبة كامل للسيمفونية و الدراما، و الدراما الموسيقية، وارتباط ذلك بنفي المنظور التعددى و بنفي التعددية فى النقد الفني و هذا استمرار للأزمة المفاهيمية التطورية التى تمر بها مجتمعاتنا.
3.غياب الوعي بالفن كوسيلة من وسائل المعرفة مع الخلط المفاهيمي العميق بين وسائل المعرفة الثلاثة التى يعترف بها علم المعرفة و هي كما أسلفنا فى أول المقال و فى مقالات أخرى, المعرفة التنزيلية الدينية –المعرفة العلمية –المعرفة الفنية.
وو أكاد أسمع بعض الأصوات المعترضة تعترض بأن ثرائنا الفني و الموسيقى بالذات هو ثراء ضخم و بلا حدود و الشاهد على هذا الملايين محليا و عالميا التى تستمتع بالفنون الشرقية الأصيلة و تبحث عنها و السؤال الذى لم يجاوب علية أحد بوضوح بعد، ربما خلاف الراحل إدوارد سعيد فى مفاهيمه عن الاستشراق كظاهرة و كخطر مستطير:
هل إعجاب الغرب بفنوننا الشرقية الزخرفية البديعة، التي تنفى السيمفونية و التعددية فى عناد مستميت تحت دعوى الأصالة و التقاليد، إعجاب صادق لما تعطيه هذه الفنون لهم من نماء و تطورو اتساع لآفاق المعرفة، أم هو علامة من علامات العنصرية التى لسان حالها يقول:(كفاية عليهم كده، كويس قوى عليهم كده و بس، و لا يمكن و لا نرضى و لا نتصور أن ينبع منهم بيتهوفن أو موتسارت أو فاجنر أو تشايكوفسكي جديد ولا نتصور أو نرضي منهم بنيتشه أو هيجل أو كانت أو بشكسبير أو جوته, دى تبقى كارثة، و الحمد لله في صراعنا الحضاري معهم نجد عندهم آليات تحجيم و إحباط أنفسهم بأنفسهم و كلما تهدد الثبات و الزخرفة المزمنة عندهم ببزوغ أمثال إبن رشد أو طه حسين أو محمد عبده، سارعوا بتحجيمه و إلغائه بفعالية و آليات عدة)
ونتساءل هنا، هل الإعجاب بالرقص الشرقي و أنواع الموسيقى الشرقية و غناء الطرب , مثلا الذي وصل الى حد الهوس في بلاد مثل أمريكا و كندا و أوروبا، هل هو إعجاب حقيقي يعكس إيمان بالعطاء المفاهيمي الفني، أم هو هوس بعجبه تقدمها مجتمعات يشجعون فيها ظواهر الطرب وهز البطون، وحينما يجد الجد يتجاهلون و يتناسون مصالحنا المشروعة و يعتبروننا كغثاء السيل لا وزن لنا كثرة بلا وزن أو إعتبار، بينما للغربيين العلم و التحليل و التطور و عمل الفريق و المعرفة التراكمية و الاختراع و الاكتشاف و الحركة السيمفونية المعمارية البنائية, و لا داعي لهؤلاء “الآخرين” لاستكشاف الغناء الدرامي أو الرقص التعبيري أو الإيقاعي أو أسرار البنيان السيمفوني التراكمي.
سؤال صعب و الإجابة علية اصعب و محصول البحث من الألم والصدمة عال للغاية وفى النهاية القضية قضيتنا، هل ننفلت من فنون الطرب و التسلية و الزخرفات الجميلة و شغل وقت الفراغ، الى الفنون التعددية المعمارية السيمفونية التي تشكل الوعي الإنساني و أنماط تفكيره و تستكشف أغوار النفس و المحيط و المجهول، أو نظل مستسهلين الرفض و التغريب لكل هذا العالم المتحدى على انه عالم غربي و غريب و غير متناسب مع تقاليدنا الشرقية الأصيلة، و كأن قدر المجتمعات الشرقية و الإنسان الشرقي ان يظل منغلقا على الأحادية المخلة و المونوفونية المزمنة و ظاهر الحركة بدلا من الحركة الحقيقية و مظاهر التعبير و الزخرفة إلي الأبد بدلا من التعبير الحقيقي.
وو أود فى هذا الموقف أن أؤكد انه هناك مكان مشروع يحظى بكل التقدير و الرعاية و الاهتمام لكل أنواع الفنون بما فيها فنون التسلية و الزخرفة و الطرب بألحان مصاحبة الكلمات و شغل وقت الفراغ و بالتأكيد للفنون الشعبية التلقائية التي نراها مرآة لتطور الأمم و الشعوب ووجدانها. و لا أقلل أبدا من قيمة و حلاوة وجمال فنون التسلية و شغل وقت الفراغ و الطرب و الكلام والزخرفة، و لكن أن تطغى فنون التسلية و اللهو و الطرب على كل المساحة المتاحة للفنون التعبيرية بالنسبة الى شعب او حضارة او ثقافة، إن هو إلا حرمان مأساوي للمجتمع من الفنون التعبيرية التعددية الاستكشافية ودورها الكامن الهائل في نماء البشر و ميلاد الوعي و القدرات المجتمعية و الابداعية فيه.
وليس عجيبا فى ظل ما قدمته من رؤية قد تبدو قاتمة أو قاسية، أننا مجتمعات لم تضيف إلى بوتقة المعرفة البشرية شيئا مؤثرا خلال فترة تزيد عن ألف عام، و قد أصبحنا معتمدين فى كل شئ و فى كل شؤون المعرفة و تطبيقاتها على الآخرين، رغم ما نعرف بيولوجيا أن تراث الجينات الذي يمثل ثراء مجتمعاتنا الكامن هو تراث بالغ الثراء، و يحمل، كمونا، إمكانيات العطاء بلا حدود. و القضية هي كيف يتحقق هذا الكمون عن طريق الاهتداء الى مسالك النمو و الحركة و التعبير و من هذه المسالك المطلوبة بالتأكيد دور الفنون والموسيقى بالذات كقنوات تنمية بشرية ومجتمعية وليس كأدوات تسلية و دغدغة و تخدير.
مازلنا حديثي عهد بمقولة ان الإنسان هو محور التنمية و عصب التنمية و التطور و التقدم دون ان يكون لنا تعريف واضح عن ما هو الإنسان، ولا عن مداخل التربية و التنشئة و التعليم التي توصلنا إلي تنمية الثراء الهائل المختزن في كل طفل يضاف إلي المجتمع، و التعريف الذي ورثناه، لا يزال يدور حول أن الإنسان المثالي و المواطن المثالي هو الإنسان المطيع المقلد التابع و ليس المبدع المجدد او المبتكر أو المتحدى للمفاهيم السائدة فى الزمان و المكان. بل أصبحت مقولة أنا متبع و لست بمبتدع، تقال بطبيعية مخيفة و تكرر في غير سياقها، وكأنها أمر بتمجيد و مدح للستاتيكية و الثبات المزمن عبر الأجيال و العصور، بينما طبيعة الإنسان العليا أن يكون مبدعا و ليس متبعا وأن يكون ديناميكيا و ليس ستاتيكيا و أن يجد النجاح و السلام و يخدم مجتمعه ووطنه والارض و البشرية عن طريق التفاعل الخلاق و الهارمونية مع المتعدد و المتحرك و ليس عن طريق التثبيت المصطنع لكل الأشياء و رفض و بتر الآخر و المختلف من اجل “إبقاء الحال على ما هو علية” فى ثبات مؤبد.
تقول لنا معلوماتنا الطبيعية و السيكولوجية و البيولوجية إن الإنسان كيان متعدد الجوانب, كيان قابل للنمو و متعدد الجوانب و ان مقتضيات نموه تشمل حق التعبير و حق تعلم أدواته على عدة محاور، و تشمل الحركة من حال الى حال. فهل طورنا النسيج المفاهيمي الصحي الذي يسمح بعلاقة تفاعلية صحية بين الثابت و المتحرك؟ بين الكائن و الكامن؟ بين الكينونة و الصيرورة؟هل حللنا مشكلة التصالح بين الثابت و المتحول؟
قدرة المجتمع على إضافات إبداعية و على إضافة فن استكشافي إبداعي و على إضفاء قيمة مضافة للأشياء, أي على التحول من مجتمع فقير و معتمد الى مجتمع ثرى و معطاء و مطلوب عطائه من كافة الجهات محليا و عالميا، مرتبطة بحل الأسئلة المذكورة توا و نعود هنا الى أهم العراقيل التي تواجهنا فى طريق التقدم و إنتاج وتذوق الفنون التعبيرية التعددية العظمى، و هي الخلط المفاهيمي الذي أشرت إلية فى بداية المقال من ذلك أننا خلطنا مجالات المعرفة بعضها على البعض الآخر و استوردنا الأحادية المخصصة فى مجال المعرفة الدينية التنزيلية لله سبحانه و تعالى وحدة لا شريك له و لا غيرة، استوردنا هذه الأحادية الى عالم العلوم و المعرفة العلمية و إلى عالم الاجتماع و السياسة و الفنون و الموسيقي، فأصبحنا محابيس المعرفة الأحادية المونوفونية و الأداء المونوفونى و الفهم المونوفوني حتي فى المجالات التي من سماتها التعدد و التفاعل و الإيقاع و الحركة.
وو لا عجب أننا سياسيا تصدر قراراتنا بالإجماع و تسفر انتخاباتنا عن نتائج 99.9% وهي نتائج مستحيلة من منظور علوم الإجتماع وعلوم الدراسات الانسانية. و تتحول العلاقة التعليمية فى مدارسنا و جامعاتنا التي تحولت إلي مدارس هي الأخري ، الى أحادية علوية يلقيها مدرس أو معلم أو قائد او أستاذ من منصة أحادية علوية على عشرات او مئات او آلاف أو ملايين من المتلقين السلبيين المحبوسين فى إطار التلقي السلبي من طرف واحد لمنظور أحادى لا تعدد و لا تفاعل فيه و لا عجب أن تتبنى أجهزة الإعلام عندنا نفس المنظور الأحادي فكريا و فنيا، و لا عجب أن نقع مرارا و تكرارا في فخ تعظيم البطل الوحيد الأوحد كبديل عن الملايين التعددية الفاعلة ، و التي يجري تفعيلها لو إهتدينا إلي أسرار التنسيق و الهارمونية بين تعدديتها و تناقضاتها و تفاعلاتها و اختلافاتها.
و نخلص مما تقدم إننا قد غرقنا قرونا فى خلط مفاهيمي مخل شمل قنوات المعرفة و خلط بين مواصفاتها و دورها المشروع فى مسيرة التطور البشرى.
إننا بحاجة الى إعادة تعريف جذري لكثير من الأساسيات.
و من المآسي ان تطل هذه الحاجة الحقيقية الملحة لتغيير الوعي و التي تأخرت كثيرا و عطلت كثيرا، فى هذا الوقت العاصف حيث نجد مجتمعاتنا و حضارتنا و نظمنا التربوية و التعليمية حتى تراثنا الديني تحت هجمة ضارية من الغرب المتحفز للهروب من تشخيص اختلالاته و أزماته العميقة بإسقاطها علينا.
و الخلاصة أنه بغض النظر عن الهجمات و الضغوط من الخارج ،يجدر بل يتوجب البحث الجريء و العاجل فى ماهية الفنون و الموسيقى و فى دورها فى عملية التعليم و التنشئة، و فى مسالك تفعيل دور الفن كوسيلة من وسائل المعرفة و الاستكشاف و كمدخل رئيسي للتعليم و التشئة. و نحتاج عمليا و نظريا الى تجذير هذا الوعي فى المجتمع و تحوله الى وعى عام يعرف بكل تأكيد ان قصر مداخلة و ثقافته الحسية على المونوفونية و فنون شغل وقت الفراغ والزخرفة,هو تصغير مستمر وإلهاء مدمر يوازي الادمان، و هو عزل مستمر عن قضايا الحياة و العصر المحورية.
وو إن كان هدف التصغير و التخدير و الإلهاء مطلوب فى عصور الطغيان الغابرة حيث أن إلهاء الرعية و تسلية السلاطين هي الهدف الوحيد المسموح به للفنون و الموسيقى و الرقص و الطرب، فلم يعد هذا الهدف مطلوبا و لا مشروعا. و نحتاج هنا الى قرار سياسي جرئ هو أن الموسيقى التعددية تعود إلى كل مراحل التعليم.
كما انه يقتضي لنمو حركة نقد فنى حقيقي، التصالح مع التعددية التفاعلية فى مجالاتها و إتمام الفصل المفاهيمي المحرر, بين هذه التعددية المشروعة و المطلوبة فى مكانها و بين الأحادية الثابتة و مجالها متروك لله سبحانه و تعالى واحد أحد دائم لا شريك له. حيث بلغ التردي و الضباب و الاختلاط المفاهيمي أن ينادي البعض بحرمة الفنون و الموسيقي. و هذا التردي ينادي بدور تثقيفي حواري مكثف عاجل في وسائل الاعلام يشترك فيه الفلاسفة و المفكرون و أصحاب الرأي و الفقه و الرؤيا بالتوازي مع نجوم الكرة و الطرب الذين يراعي أن يستحوذوا علي وعي الجمهور العريض بصفة شبه كاملة
ويقتضي أيضا لنمو حركة نقد فني وموسيقي فعال ، الوعي أن الفنون التعبيرية الاستكشافية هي أحد أهم الطرق لتكوين النسق الإبداعي فى الفكر و الأداء القادر على اختراق الفقر الإبداعي الذي هو مولد للفقر المادي والذى حولنا و يحولنا إلى بلد فقير رغم الثراء الكامن الهائل، نلتقط و ننقل الانتاج و المعرفة و التكنولوجيا و الاختراعات من كل دول العالم دون أن ننشأها أو نضيف إليها شيئا يذكر.
وو إذا تحول المجتمع من مجتمع ناكر للإبداع متجاهلاً له مقللا من شأنه بل و مجرما له أحيانا، الى مجتمع يعي تماما أن الفن هو أهم مداخل تنمية الثروة البشرية و القومية وما تملك كمونا من ثروة حسيه وهي التى تتحول بدورها الى ثروة مادية، وإذا وعي المجتمع أننا نخسر كل يوم بل و كل ساعة بلايين الجنيهات بل و بلايين الدولارات بلغة العصر عندما نعقم أولادنا و بناتنا و نعزلهم عن الإبداع الاستكشافي، بإصرارنا على التعريف المونوفونى الأحادي للفن وللعلم و للمعرفة، فإذا وعينا خلال هذه الرحلة أن الفكر الإبداعي و الحفاظ على العاطفة الإبداعية هى أهم ثروة للمجتمع الإنساني تتولد عندنا بالتأكيد حركه نقد فني و نقد موسيقى مؤثر، ارتباطا بالوعي ان كل حدث فني إبداعي هو حدث يقع بطبيعة هذا الفهم الحديث فى أعلى مراتب الأهمية فإذا كانت الأحداث التي تمس محصول القمح أو محصول القطن أو قناة السويس أو اكتشاف بئر بترولي تتصدر الصفحة الأولى فى كافه وسائل الأعلام و الفقرات الأولى من النشرات التليفزيونية فإننا فى ظل الوعي الجديد بماهية الفن الابداعي ودوره سنجد الحدث الفني و الإبداعي يتصدر الصفحات الأولي والمقروءة و يجتذب عشرات التعليقات بل مئات الصفحات من التعليقات و النقد والدراسات و التحليل متعدد المناظير، ذلك فى حاله النجاح في زرع بذره المفهوم الحديث للفنون التعبيرية و دورها فى تكوين ثروه الأمم و الشعوب و مكانها فى العالم الحديث كما تقدم شرحه في هذه الورقة.
إذا نعزو فقر الحركة النقدية الجادة و العميقة فى الفنون الموسيقية الى غياب الوعي بماهية الفنون و دورها المحوري فى تحقيق الثروة الهائلة الشعوب.
وو نواجه فى هذا المجال معضلة الموقف العلوي المتفرنج الذى تنمية مراكز التعليم الموسيقى و الفنون خاصة و مراكز التعليم عامة عند المثقف او الفنان الدارس بالنسبة لإنسان القاعدة المصري. فنواتج التعليم عندنا معظمهم يحمل مواقف متعالية على “الشعب” تجر المثقف المصري و المجتمع الى مواقف ضد تطورية و متناقضة. الشعب المحروم من الفنون التعددية و المعمارية و الدرامية التى لا يستسيغها و لا يجد و لا يجد من المثقفين المتعالين علية من يأخذ بيده بكل الحب و التبجيل و الاحترام ليستوعب و يستسيغ الموسيقى التعددية و الدرامية و السيمفونية بل يقع فريسة لاستغلال من نوع خاص، ظاهره الحب و باطنة التقزيم المستمر، بأن يقدم له بصفة مستمرة ما يحب و يستسيغ من فنون الطرب و التسلية دون أى تحدى فكرى او مفاهيمي او تعددي و هى الفنون الرابحة الرائجة و هى التى تنبع بها و منها صرخات و صفير وآهات الإعجاب و التقدير و كذلك المكسب المادي الهائل. و الوضع في هذا مثل الأم التي تدعي أنها من فرط حبها لطفلها نشأته عل إدمان لبن الثدي و الماء بالسكر حتي يشب و يبلغ ثم يشيخ و يهرم و هو لا يستسيغ إلا اللبن و الماء المحلي بالسكركنوع من الادمان. و للحق لا بد ان نذكر فى هذا المجال رواد من امثال سيد درويش و محمد عبد الوهاب و الدكتور حسين فوزي و قد حاولوا توسيع مجال الوعى الفنى بالموسيقى و توسيع حدود الذوق الفني الرائج ليتسع تدريجيا للتعدد و للدراما و للتطوير و المعمار, و للحق أيضا أن الجمهور المصري قابل هذه المخاطرات والمغامرات و التجديدات و التحديات أحسن مقابلة و إستقبلها بالتقدير الكبير، ثم لعوامل عديدة و معقدة، نجد أن الاتجاهات التحديثية و التطويرية تتعقبها بصفة مستمرة عفاريت، يسمونها الإخلاص لتراثنا الشرقي الأصيل و لجذورنا العربية المجيدة و كأن قدرنا ان ننحبس مع هذا التراث و مع الماضي المجيد فى موسيقية مونوفونية زاعقة الحركة و الإيقاع و الزخارف بلا حركة,غير قادرة على نقل نسق فكرى او معرفي او مفاهيمي لا تستوعب عملية التطور و النمو.
أما المعضلة التالية فهي ما يبدو من انحسار الموسيقى المعمارية الجادة من العالم ككل و انضمام العالم في أزماته المتفاقمة فيما يبدو لمعسكرنا الشرقي الذى لا يرى فى الموسيقى وسيلة من وسائل المعرفة العظمى، بل وسيلة من وسائل التسلية و شغل وقت الفراغ و شل التفكير و اقتحام مساحات الهدوء و التأمل. و ها هو عالم الغرب في أزماته المتصاعدة و قد انضم لنا فى مأساة حبس الموسيقى فى مجال مصاحبة الكلام مع نفى الموسيقى البحتة البنائية التأملية، يكاد يحبس الموسيقي من جديد فى مجال الرقص و التشنج و الجنس و الفيديو كليب و الإيقاع الزاعق المتكرر و الكلمات التى انتقلت بسرعة من الأشعار الرفيعة الحساسة الى الكلام التافه المزمن المكرر و ان كانت تتكرر فى هذه الترديات ظاهرة تقديم السود و الملونين و الأجانب فى صورة سلبية. و لو أعملنا الرصد و الملاحظة لوجدنا التوازي مع أفلام رامبو و جيمس بوند التي شاءت أن تغسل مخ العالم تعليما و إعلاما و إعلانا عن اليوروأمريكي المتفوق الذي لا يقهر، بينما يجري تقديم السود و الملونين كأشرار أو كأراجوزات أنصاف بلهاء أو كعجبات يستمتع بمشاهدة ألاعيبهم و أعاجيبهم كتسلية و تأكيد للنظرة الدونية العنصرية إليهم.
نحو الحلول
1.عودة الموسيقى الى التعليم و إلى المدارس بقرارات جريئة، ليست كمواد “هزارو لعب و ألعاب” فرعية بل كمواد أساسية في العملية التعليمية
2.عودة الموسيقى الحية الى الحدائق و المنتزهات
3.برامج حوارية لتقديم و شرح الموسيقى التركيبية و الدراما الموسيقية فى أجهزة الإعلام بنفس القدر من الحب و من الإيمان بالإنسان المصري الذى قدمه فقيد الثقافة الموسيقية المصرية الدكتور حسين فوزي و الذى كاد ان ينتصر فى معركة تكوين وعى موسيقى عام جديد
4.إحياء اوركسترات المدارس و الجامعات و الكليات و جماعات الموسيقى و الدراما بها.
55.خروج فرق الأوبرا و فرق الجامعات و المدارس , الى كافة أنحاء الجمهورية بصفة منتظمة و العودة لنظام الحفلات رخيصة الثمن للشباب و التلاميذ و الأطفال، و رفع الضرائب و المكوس و التعقيدات البيروقراطية نهائيا عن الكتب الثقافية و الفنية و النوت الموسيقية و الآلات الموسيقية و الاسطوانات و التسجيلات و تسهيل نقلها و شرائها و تشجيع مشاريع صناعتها و الخروج نهائيا من اختلال اعتبار الفنون و الموسيقى و الثقافة ضريبيا من وسائل الترفيه و الرفاهية.
4. تبنى المركز الثقافي القومي او الهيئة العامة للكتاب لمشاريع نشر و تسجيل موسيقى المجتمع بكل أنواعها بما فيها موسيقى المؤلفين المعاصرين الذين أرخ لهم ووثق أعمالهم الأستاذ الدكتور زين نصار بكل اقتدار. المبدعون المصريون المجددون فى القوالب التعددية و السيمفونية الذين يمنعون بالعزل و التجاهل و غياب وسائل النشر و التوزيع عن التفاعل الحقيقي مع الجمهور العريض محتاجون أشد الاحتياج للتعرض للجمهور حتى يساعدهم هذا التفاعل الذى حرموا منه على تطوير موسيقى المجتمع حقا فى القالب التعددى المعماري. و يتأكد هذا المعني عند رصد الابداعات المصرية في مجالات الموسيقي التصويرية للأفلام و المسلسلات التلفزيونية وهي مساحة تحرر فيها المبدع المصري من طغيان التسلية و الطرب إلي رحابة التعبير و التصوير فأبدع.
55. تدعيم أقسام النقد الفني فى الأكاديميات و الجامعات المصرية, مع انتشار الوعي بالدور الحيوي للفنون التعبيرية كأحد أهم وسائل المعرفة ووسائل تكوين النسق الفكري السليم و المخ الإبداعي القدر علي التعامل مع المعرفة التراكمية التعددية فى الأجيال الناشئة و كل هذا يأتي بطريقة طبيعية مع التغير الكيفي فى الوعي بمكان و مكانة الموسيقى كإحدي قنوات ووسائل الحفاظ على القدرة الإبداعية للشعوب و تنميتها. د. طارق علي حسن
أستاذ بطب الأزهر