أنشر هذا المقال الهام للمفكر المصرى الكبير الراحل د: زكي نجيب محمود نظرا لأهميته القصوى فى الوعى بأمور خاصة بأجراء حوار قومى فى مصر كنت قد أشرت بضرورة قيامه الآن بين كافة الأطياف السياسية فى مقال كتبته منذ لحظات على هذا الموقع بعنوان :”محاولة قراءة ماحدث وماسيحدث فى مصر” وهاك نص مقال الدكتور زكى نجيب محمود بعنوان “الكراهية الصامتة” من كتابه “الكوميديا الأرضية”_ اليك نص المقال:
عجيبة هذه الكراهية التى قد يحملها الناس أحيانا بعضهم لبعض بغير سبب ظاهر معقول؛فترى رجلا وقد اتخذ موقف الكراهية والمعارضة من رجل آخر،مع أنهما بعد لم تصلهما صلة من حديث أو عمل؛لكنه يحس من نفسه استعدادا لرفض ماعسى أن يقوله هذا الآخر قبل أن يقوله،لأن رفضه فى الواقع منصب على شخصه،فاذا رأيته معارضا لأقواله مفندا لآرائه،فانما جاء ذلك عن كراهية لاحقة لكراهية سابقة،انه قد بدأ برفضه للشخص ذاته ثم عقب على ذلك برفضه لأقواله وآرائه كائنة ماكانت،فان قال هذا عن شىء انه أبيض رأى هو أنه أسود،لا اخلاصا فى التعبير عما يراه حقا وصدقا،بل رغبة فى نبذ هذا الشخص الكريه بكل ماينطق به من نبأ أو حديث.وكثيرا ماتكون هذه هى نفسها العلاقة بين جماعة وجماعة أو بين جيل وجيل،فترى الكراهية بينهما صامتة قائمة متحفزة متأهبة تتحين الفرص والظروف،حتى اذا ماسنحت لاحداها اللحظة المواتية نفثت سمومها على الخصيمة الكريهة دفعة واحدة،كأنه سيل حبيس وجد الثغرة فاندفق،انك لتعجب أحيانا كيف تكفى الحادثة التافهة لاثارة حرب طاحنة بين شعبين،أو لاعلان خصومة حادة بين أسرتين،والواقع أن قد كانت الكراهية بين الجماعتين قائمة وان تكن صامتة،ثم سنحت فرصة اعلانها،كأنها المرض الخبيث المزمن،يكمن حينا حتى ليظن بصاحبه الشفاء،فاذا لفحة خفيفة من البرد تثير كوامنه وتشعل خوامده.وبين أبناء الجيلين المتعاقبين تقوم مثل هذه الكراهية الصامتة العجيبة،فأبناء الجيل المقبل-فى أغلب الأحيان-ناقمون ثائرون على أبناء الجيل المدبر،الأبناء لايعجبهم سلوك أبائهم،والأدباء لايرضيهم أدب شيوخهم،والمشتغلين بالسياسة يرون فى القادة قوة رجعية لابد من زوالها،وكذلك آباء الجيل المدبر فى أغلب الأحيان مستخفون بأولئك الصغار الناشئين،حتى ليكاد يستحيل عليهم أن يتصوروا أن من هؤلاء المقبلين أحدا هيأه الله لملء فراغهم،فلا الوالدون يرون فى أبنائهم ما عهدوه فى أنفسهم من متين الخلق وحميد الخصال،ولا الأدباء يلمسون فى أدب الناشئين شيئا ذا غناء وبال،ولاقادة السياسة يطمئنون أن هذا الشباب الغر قادر على تسيير السفينة بمثل ماسيروها؛الجيل المقبل والجيل المدبر،كلاهما ينظر الى الركب،فاذا هو عند الأول سائر الى أمام،واذا هو عند الثانى منزلق الى وراء…وهكذا ترى ثورة أولئك على هؤلاء،واستخفاف هؤلاء بأولئك،مظهرين للكراهية الصامتة القائمة بينهما-الكراهية التى ترفض القول نتيجة لرفض قائله،ولا تنتظر حتى تسمع ما يقوله القائل قبل أن تنتهى الى رفض أو قبول.هكذا قد تكره شخصا من الناس ولا تدرى لماذا،أو لعلك تستطيع أن تدرى لو أخذت فى تحليل الموقف على نحو ما يفعل علماء التحليل النفسى فى أمثال هذه الحالات،فهم يزعمون أن للكراهية سببا قد طمرته الأحداث فاختفى عن العين السطحية العابرة،لكنه لايخفى عن العين الفاحصة التى تنبش حتى تزيح عن العقدة الدفينة ركام الحوادث،فتخرجها الى ضوء الشمس من جديد.انها الكراهية الصامتة القائمة بين الناس أفرادا وجماعات؛وليقل فى تحليلها وتعليلها أصحاب البحوث النفسية ماشاءوا من أسباب دفينة خبيثة،لأن ذلك لا يغير من الأمر شيئا،فلا يزال الأمر الواقع هو أنك قد تحمل لهذا أو لذاك كراهية لغير ما سبب ظاهر،فتوحى لك الكراهية أن تتخذ الأهبة لرفض ما يقوله الكريه قبل أن ينطق به-والى جانب لاهذه الكراهية التى تحملها لبعض الناس،حب تحمله لبعضهم الآخر،يميل بك الى قبولهم وقبول كلامهم وآرائهم،كأنها فى أذنك النغم الجميل،وعلى ذوقك العسل المصفى.فكأنما تسير بين الناس وفى جعبتك عدة شعورية تقابل بها م يقولونه وما يفعلونه بالقبول أو بالرفض،لا لأنها مقبولة لذاتها أو مرفوضة لذاتها،بل لأنك تكره هنا وتحب هناك.ان من أقوى اللمحات الفكرية التى قرأتها لنيتشه،يقول فيها ان منطق الناس لا يسير من المبررات العقلية الى ارادة أداء الأفعال التى تترتب عليها،بل يسير على عكس ذلك من ارادة أداء أفعال معينة يشتهيها الفاعل بعاطفته،ثم يبحث لها بعد ذلك عن مبرراتها العقلية،أى أنك لاتقول : ان عقلى يرى الصواب من الأمر كذا وكذا ولذلك فانى فاعل كيت وكيت،بل تقول : انى فاعل كيت وكيت ولذلك فان عقلى سيجد من المبررات كذا وكذا.فلنعلن من الكراهية التى نحملها فى صدورنا عما عساه أن ينتج خيرا بأعلانه،كهذه الكراهية التى أعلنتها الشعوب ضد حكامها الطغاة،والتى أعلنها الفقراء على الأغنياء،أما ماعدا ذلك فالخير حبسه فى الصدور،حيث تظل الكراهية هناك بين جدرانها صامتة،لاأثر لها ولا خطر،اللهم الا ضيق الصدور الحابسة وكتمة النفوس الكارهة.