ارتبط نشوء الأمة الأميريكية برؤى أنبياء ومخططات كهنة “العهد القديم”،ووصل ذلك الارتباط إلى حد أن “الآباء المؤسسين” عندما فكروا فى تصميم رمز للأمة الأميريكية اتجه تفكيرهم أولا،وقبل اختيار أى رمز آخر،إلى راية كان من المفروض أن تمثل موسى وهو يقود “الشعب” خارجا من أسر المصريين صوب “الأرض الموعودة”.وكان ذلك الاختيار منطقيا،ولم يثن “الآباء المؤسسين” عنه ويجعلهم يختارون رمز النسر بدلا من رمز (موسى خارجا إلى أرض الميعاد ) إلا البراجماتيكية الأميريكية التى لازمت العقل الأميريكى منذ البداية والتى دعت إلى الابتعاد عن اختيار رموز (تفضى إلى مناظرات خطرة ولا داعى لها بين مجموعات سكانية انتمت إلى طوائف دينية متباينة المنطلقات وإن اجتمعت كلها تحت مسمى واحد صار _ فى عصرنا _ “الديانة اليهودية المسيحية” وهو ما يروج له الساسة والدعاة الصهيونيين الآن بقوة والحاح.وقد كان اختيار رمز موسى خارجا ب “بنى إسرائيل” إلى “أرض الميعاد” منطقيا ومطابقا كرمز عبر عن هوية الأمة الأميريكية لأن الأميريكيين،وبخاصة العناصر التطهرية ذات الأصول الأنجلو ساكسونية الغالبة فى بنية أمتهم،رأوا أنفسهم،فى سياق توراتى خالص،كما قال كاتبهم الأشهر هيرمان ملفيل (1819-1891) “إسرائيل هذا الزمان ،وشعب الله المختار الجديد،شعبه الأخص الذى حمله بمسئولية خلاص العالم “،واعتبروا اقامتهم لمستوطنتهم الأولى،”نيو انجلند” على أرض القارة الشمالية
كما قال حاكمهم وقائدهم جون وينتروب (1588-1649) فى سنة 1630 تنفيذا ” لعهد دخلنا فيه
مع الله للقيام ببناء مدينته (صهيون-أورشليم الجديدة ) على هذه الأرض،وأعطانا الله حرية وضع بنود ذلك التعاقد معه،وأسبغ علينا نعمته وبركته”،واعتبروا قيام دولتهم،الولايات المتحدة،كما قال جون آدامز،أحد واضعى اعلان الاستقلال ورئيس الولايات المتحدة من 1797 إلى 1801،”تحقيقا لغاية إلهية”.ولم يقف ذلك التداخل للرؤية التوراتية والرؤية الشاملة للشعب الأمريكى لنفسه ولدولته عند أولئك الكتاب والحكماء والرؤساء القدامى،بل امتد بقوة إلى قلب القرن العشرين.فهارى ترومان،رئيس الولايات المتحدة من 1945 إلى 1953،وصاحب قرار القاء أول قنبلتين ذريتين فى التاريخ على هدفين مدنيين،أعلن دائما أن التوراة تضمنت “الركائز الجوهرية” للدستور الأميريكى،وجون كندى،الذى حكم الولايات المتحدة من 1961 إلى 1963،أعلن أن “يهوه (إله إسرائيل) هو الذى يحرس الولايات المتحدة ويمنحها قوتها التى لا تقهر”.0
والسؤال الذى كان ينبغى للسادات أن يطرحه على نفسه،كما ينبغى لكل من يأمل فى أن “تحل أميركا الصراع” دون أن يتوقف ليفكر فى أن منشأ الصراع هو تحديدا المشروع الصهيونى الذى أخذت الولايات المتحدة على عاتقها تنفيذه فى المنطقة العربية،هو : مع التسليم بأن 90 أو 99 فى المائة من أوراق اللعبة فى يد “أميركا”،مالذى يمكن أن يبرر للسادات أو لأى رجل دولة عربى يتطلع إلى حل “أميركى” للصراع أن يتصور أن “أميركا” على استعداد لتضييع أوراق اللعبة الرابحة هذه من يدها لتحل للسادات أو لغيره مشكلته مع إسرائيل وهى المشكلة التى نشأت وستستمر إلى أن ينفذ المشروع الصهيونى بأكمله،نتيجة لقيام الولايات المتحدة بتنفيذ
ذلك المشروع ؟.ولقد كانت مشكلة السادات،الذى لا خلاف على أنه فوق كونه ديكتاتورا وخلفه ديكتاتور،كان رجلا شبه أمى_بمعايير ما ينبغى أن يتوافر لمن يتصدى لمهمة الحكم من معرفة وما ينبغى أن يوفره لنفسه من مشورة متخصصة _ تصور أن نيكسون وفورد وكارتر وكل أولئك الناس الذين قال أنه “زهقت روحه من طول ما أشتغل معلما لهم” كانوا بحكم كونهم رؤساء مثله،الحاكمين بأمرهم فى “أميركا”،يقولون للشىء كن فيكون،وما دامت “أميركا” ممسكة بيدها بأوراق اللعبة،فلابد أن تلك الأوراق كانت،فى زمن نيكسون،فى يد نيكسون،وفى عهد فورد،فى يد فورد،وفى كامب ديفيد،فى يد كارتر،وفاته تماما أن كارتر وفانس وكل “أميركا يا سبحان الله” كانت فى يد مناحم بيجين.0
ولهذا بوغت السادات عندما وجد أن صديقه كارتر لم يستطع أن يقوم بأى عمل جدى فى مواجهة “التعنت الاسرائيلى”،وفى النهاية،اضطر كارتر أن ينفجر فى السادات صائحا عندما تعثر عند الصياغة الغامضة التى فرضتها اسرائيل على عبارة “تقرير المصير ” أن المشاكسة فى هذه النقطة ستفقده كرسى الرئاسة،أو كما أورد القول محمد ابراهيم كامل وعندها انفجر وزير الخارجية المصرى،حسب قوله،قائلا بصوت عال منفعل : “أهذا هو رئيس أقوى دولة فى العالم؟ أهذا هو القديس الذى كان يدعى أن الدفاع عن حقوق الانسان والمبادىء والقيم هو محور سياسته ؟ إنه ابن كذا وكذا.أمن أجل أن يظل رئيسا لأميركا ثمانى سنوات بدلا من أربع يضحى بمصير شعب بأكمله؟ يا له من تافه حقير”! (السلام الضائع فى كامب ديفيد صفحة 603 ).0
وبطبيعة الحال كان لوزير خارجية مصر الحق فى أن ينفعل.لكنه أخطأ فهم الموقف تماما.فكارتر لم يكن خائفا على كرسى الرئاسة فحسب،بل وكان _ حسب معتقدات الطائفة التى ينتمى إليها _خائفا على مصير روحه الخالدة عندما تلتقى بيهوه إله إسرائيل فى السماء بعد الموت فيفترسه يهوه لأنه قصر فى القيام بواجبه تجاه مصالح ابن يهوه البكر،وشعبه المختار،إسرائيل.0
كما أخطأ وزير الخارجية خطأ آخر أخطر.فكارتر لم يضح بمصير شعب بأكمله،إن كان قد عنى بذاك الشعب الفلسطينى،بل ضحى،بمنتهى راحة الضمير،بشعوب منطقة الشرق الأوسط كلها بإشرافه على استدراج زعيم مصر الجاهل الأرعن المغرور إلى مصيدة كامب ديفيد،وعزل مصر وإخراجها من ساحة الصراع وبالتالى رفع العقبة الرئيسية والأخطر من طريق تنفيذ المشروع الصهيونى فى المنطقة.ويومها،تصنع (قط الأزقة “السادات”) موقف رجل الدولة الحكيم،فوضع يده على كتف وزير خارجيته الذى تورط معه،وقال له “أصلك أنت يا محمد مش سياسى “!.0
فهل كان السادات سياسيا،أم كان مقامرا فلاحا غشيما دخل الكازينو ليقامر،لا بأموال الغير،بل ببقائهم ذاته،فجرده المقامرون المحترفون من كل ما جاء به معه وركلوه خارجا ؟.0
لقد أريق مداد يكفى لكى يجرى أنهارا من السواد،حول كامب ديفيد.ولقد تجمع كثيرون من ضاربى الطبول حول مصر فأحدثوا ضجيجا ثاقب الصوت حول رأسها كيما تنقاد وراء السادات إلى كامب ديفيد.وفى كل ما أريق من مداد وكل ما أحدث من ضجيج حول رأس مصر،ظلت لفظة “السلام” تتردد بإلحاح.0
على جمجوم
احداث مصر
التأصيل الصحيح لمأساة كامب ديفيد
اضيف بتاريخ: Tuesday, September 1st, 2015 في 02:24
كلمات جريدة احداث: احداث, على جمجوم