عندما تنطفئ كل الأنوار داخل النفس و تكتمل دائرة الظلام تمسي كل شبابيك الانسان مشرعةً تجتاحها برودة متوحشة تجثم على روحه تمتصه وكأنها مخلوق خرافي قدِم من عالمٍ غريب ينهش وينمو ويتغذى على أرواح البشر ، حتى نشعر بكل شيء في داخلنا يصرخ و ينزف ..عقولنا .. قلوبنا .. أجسادنا النحيلة وأحلامنا الضائعة … وإنه ليبدو لي فيما ألحظه كثرةً متنامية في أعدادنا ..نحن المتألمون النائحون الناظرون لما حولنا نظرة يصفها الآخرون بالجنون ..
اليوم ذهبنا إلى مأتم مدرسة شابة ماتت بالذئبة الحمراء .. وعندما دخلت بيتهم الفقير تتوزع بين جدرانه الأحزان شعرت بانقباض كبير ، وبهزيمة تعتصر قلبي رغم أن الميتة هي مدرسة أخت زميلتي ولم أرها من قبل ، وإنني لأحزن على الأحياء الأموات أكثر من حزني على من مات ، فهو ذلك الذي تحرر أخيراً من الألم بعد أن انفتح له بابُ ليهرب منه تاركاً الحزن خلفه .. حزناً يحرضه الظلم ليلحقنا فلا يفلتنا ، لكنه بابُ تكسرعند حدوده أعناق الظلم فلا يعبره.. يعبر منه الموتى ويفرح به المظلومون فيقال لهم لا بأس عليكم اليوم وإنكم الآن لفي حضرة الرحمن وإنه اليوم الذي يستطيع أن ينام فيه المظلوم ملء جفنيه بلا خوفٍٍ وبلا أحزان…أفليس ذاك بأفضل من أن تتغذى وتقتات علينا الهموم وترتدينا الهزيمة والمذلة سنينا طوال دونما مفر
وبالأمس القريب كنا في مأتم مدرَسة زميلتنا ماتت بالسرطان بعدما عانت سنتين كاملتين ، وعندما ماتت كانت قد تقلصت جثتها من طول المعاناة فنعتها أحدهم بأنها بدتْ كعصفورٍ ميتٍ في سرير .. أحزان نسمعها كل يوم في أثناء سيرة حياتنا .. تتراكم فتمسي تلالاً تحجب الأنوار
وإنْ لم يجدَ جديد فإنني غداً أيضاً سأذهب إلى مأتم زميلنا الأستاذ الذي مات بالنوبة القلبية فجأةً… وهكذا تسير رحلة الموت في بلادي ، تأكل الناس الأمراض والفساد والمظالم بينما يستمرون في الحياة بطريقة غريبة دون أن يسألوا أو يستنكروا… إنَ سيد الأمراض هنا وهو السرطان يعربد بين الناس بكل التيه والجبروت ، وكم يؤلمني عندما أرى هؤلاء اليمنيين مستسلمين ومظلومين وظالمين .. وإنَ ما من جرأة لي لأعترض على القدر لكن عندما يكون الأطباء المدراء في المستشفيات والمسؤلون في وزارة الصحة فاسدين ولا يتغيرون حتى بعد الثورة المزعومة ، وعندما لا يكون ثمة من أحدٍ يسأل عن سبب احتياح السرطانات بهذا الشكل المخيف فيحصد حتى الأطفال ، وعندما لا تتوفر الوسائل الكافية للبحث والمواجه والعلاج ، وعندما يسافر أبناء محافظة عدن وبقية المحافظات الجنوبية طالبين الأجهزة المناسبة والأطباء الأكثر قدرة في مستشفيات صنعاء أو تعز كمستشفى العلوم والتكنولوجيا أو مستشفى الثورة… فعندما يكون الوضع كما وصفت بينما لا يتوفر سوى الصمت من الجميع ، وتجاهل مخيف وكأنه الواقع الذي لابد منه ، بل يرونه الواجب المحتم عليهم، وعندما تصرخ بقلبك وبعينيك بين الناس أين الحق وأين العدالة ؟ تجد نفسك وحيداً مختلفاً .. يدميك كل شيء ابتداءً من القمامات ومياه المجاري الطافحة في الشوارع .. يدميك رؤية الظلم في كل شيء سافراً يتبختر ولا يسمعك من أحد ، وأما إذا كانت ثمة مصالح أو ثمة فكر ذي سلطة يوجَه الناس فإنهم يصدحون بكل حماس : نعم هذا ظلم
لقد أطلقت كل الدنيا على المشاركين في هذه الثورة اليمنية بأنهم الثوار والأحرار والأبطال !!!.. وأي أبطال ؟! سيشهد عليهم الزمان في يومٍ ما ، وستشل يد التاريخ قبل أن تدوَن هذا الظلم البيَن بأنهم الأحرار بينما هم شعبُ فقير مستغل ومسير .. مظلومُ وظالم يقوده نفرُ من الجبارين ومن الراقصين في الأحزاب …
أما اليوم فاكتبوا ما شئتم وخطَوا الملاحم في الصحف تتغنون فيها بأعمالكم و بأبطالكم وزينوا السفن الحربية الغربية في السواحل وقولوا بأنها لمنظمات تساعد الطفولة مليئة بالأدوية والأغذية والألعاب ستوزعها على أطفالنا الفقراء المبتلين بسوء التغذية وتشكيلة الأمراض ، وسيصدقكم الناس فأنتم بارعون في الكلام ، واطلقوا علينا اسم المتحولين كالذين يظهرون في أفلام الرعب ، فقد أصبحت أعدادنا تتنامى يوماً بعد يوم وأصبحنا نشكل صوتاً نشازاً بين سنفونية الثورة المليئة بحشرجة الفساد والأكاذيب والقتل والظلم…. لا تترددوا صفونا بالمتحولين الأشرار لأنكم عندما تتفوهون بها وتجمعوننا في سجون وتطلقون علينا النار بحجة أن تتخلص البلد من المتحولين الهائجين فإنهم سيصدقونكم .. هذا الشعب اليمني الظالم لنفسه ولغيره ، العابد لأسياده وفساده سيصدقكم وستمدكم دول الخليج والامريكان في غضون ساعات قليلة بالمال والسلاح وستتغنى القنوات العربية بإنجازكم العظيم ، وستقول في خبر الساعة : هنيئاً لكم الوحدة أيها اليمنيين.. فلا تترددوا .. هيا اقتلونا وخلصونا وافتحوا لنا باباً لنعبر منه إلى السلام .. أعلم أنكم ستفعلون قريباً قبل أن تزداد أعدادنا ويكتمل تحول المقهور والمسحوق منا إلى غول يلتهم الظالمين والمجرمين المتحولين إلى محترمين وإلى ثوار … بعدما كانوا يستمتعون وهم يسلخون أراوح الضعفاء وإنسانيتهم … يضحكون ويتراهنون كم سيستلزم الواحد منهم ليتحول إلى ما سيسمونه بالإرهابي أو إلى مجنون … ولست أتحدث عن قاعدة اليمن أو أنصار الشريعة الممولين والتابعين لفرقاء اليمن الأقوياء ، إنما أتحدث عن ابن الجنوب المسحوق حقه في كل شيء حتى في أرضه وثرواته التي قدمها عن طيب خاطر في سبيل الوحدة الحلم التي تربى ونشأ عليها فخدع بها
أرى الشمس