في الـ30 من نوفمبر استقلت عدن من الاستعمار البريطاني بعد نضال طويل ، عاشت تلك المدينة بروحها وبناسها الطيبين كل القضايا العربية ، ولقد ضاعت هذه المدينة وانطمس مستقبلها وتحولت إلى ما يشبه القرية ، وهي لن تعود أبدا .. لكن ياعرب تذكروا مدينتي عدن أرجوكم.. فهي تستحق الذكرى والله
كنا فراشاً يحلق في ربوع الجنوب نلتقط الرحيق من زهور مدينتنا الجميلة ..
اختفت ألواننا ، وأبيض شعر مدينتنا ، وعيينا ندافع عن قضيتنا ، فلم نجد أحداً يصدقنا. ومن ذا الذي سيصدق في هذه الأعوام الأليمة أنها هي ذاتها عــدن .. عدن القديمة جميلة العينين وردية الخدين ، من كانت تبتسم لكل الزائرين فيتساقطون في عشقها بشغفٍ يوشَيه الحنين .. آهٍ لو تعلمون ياأهل العروبة ، ولو أنكم كنتم تشاهدون ، كيف كانت بلادي ، وكيف صنع بها الطغاة وهم ينتشون .. كم كنا ياعرب نتمنى أن تغسلوا عنا حزننا الأليم ، وأن نغني في جنوبنا مثلما غنى عبدالحليم : والعروبة في كل دار وقفت معانا ، والشعوب الحرة جت على اللي عادانا … فوالله إنَ عدن كانت تستحق ألا نفرط فيها هكذا ، وكرامتنا ومستقبلنا وحريتنا كانت أيضاً تستحق …
أعلم بأنه قد فات الأوان لعودتها ، وإلا فستكون فتنة سيباح فيها سفك الدماء وسيتعاظم الظلم أكثر وأكثر ، لكنه قلبي الذي لم يرفض النسيان ويظل يبكي بالحنين والذكريات .. كانت مدينتي مدينة الفراشات ، تزورها كل عام ، تحمل في جناحيها كل ألالوان من الأمل والنور ، نكاد نشبهها .. كنا نلعب معها ونحن صغار ، نحبها ونساعدها ، ذاك أننا أهل الجنوب كنا مثل أرضنا الشاسعة الوفيرة المليئة بالخير والقلوب الكبيرة .. زهورنا البحار ، ورحيقنا كان قد صنع من أشعة الشمس الحنونة التي تغوص في أعماق بحرنا ، فتحليه ، حتى يصبح ذهبياً حلواً ، يتدفق أمواجاً في الشواطئ ، نرتشف منه متى نشاء .. أحراراً سعداء ، نحلق في أرضنا .. النقية كالسماء ، نتقاذف الرحيق بيننا نمازح بعضنا ، نجري عليه ، نتقلب فيه ، يغطينا ، فنضحك حتى تغار منا مآقينا ، فتبكينا من شدة الضحك …
ثم رأيناهم يوماً يتسللون ، يأخذونها في ليلٍ أسودٍ بهيم فصرخنا انتظروا ، إلى أين تأخذون مدينتنا ؟!! ..
لقد كنا والله صغاراً يابلادي فلم تكن خطيئتنا ، ثم أنهم قالوا أنك تتزوجين من فارس قديم ، وأنك توافقين … حتى أمسكتْ بك تلك العصبة من يدك في حفل زفافٍ مهين ، وكأننا نستر فيك عاراً دفين ، وقلنا ..مـاذا؟!!! قالوا ألسنا أهل الجنوب من الزاهدين ، ورغم غيرتي عليك فرحت لك ، وقلت اليوم تسعدين ، وأنك كنت تعشقين ، وتساءلت كثيراً لم لم تخبريني رغم قربك مني عن فارسك الأمين ؟! ثم قلت لنفسي هذا حال العاشقين .. سامحيني يا حبيبتي إذْ لم أسمع بكاءك ، ولم أعي ماذا تقصدين ، كنت ربما أفكر في نفسي أكثر منك بل وحضرت جنازة عرسكِ ، ثم ما فتئت اليوم أبكي عليك وعلى أمسي …. فاليوم يابلادي مزقوا أجنحتي الجميلة التي كنتِ يوماً قد منحتني إياها ، وناديتكِ من شدة وجعي بين أيديهم .. صرخت وصرخت ، ولم يسمعني كل من كنت أناديهم .. ظلوا ياعدن يتلذذون وهم يشدونني من جناجي بألمٍ عظيم ، فعلوا ذلك قاصدين قليلاً قليلاً ليحرصوا أن يستمر بكائي والأنين ماطالت السنين ، حتى إذا سقطنا ديداناً في الأرض نهرب من أقدام الظالمين داسونا ولم يرحمونا فاختبأنا في شقوق الأرض بعد كل الحقول ، وسط الظلام بعد كل النور ، نسمع وقع أقدامهم في قلوبنا وعقولنا ..تخيفنا أصواتهم .. تقرع في آذاننا كالطبول بعد كل الضحكات وكل ذلك السرور، لقد لقينا ما لقيتِ يا بلادي ، ودفعنا ثمن ما فرطنا بك في أيدي الأعادي ، وهانحن اليوم نعيش موتى في القبور … منا من استطاع الفرار إلى دول الجوار، ومنا من وقع أسير، ومنا من باع نور جناحيه بثمنٍ معيبٍ يسير ، فاشترى كثيراً من البيوت والأراضي ، وارتشف بعد رحيقك المجون ، كل هذا وإخواننا العرب يصفقون ، ويملؤون جيوبهم وأفواههم من رحيقنا القديم ، لا يعلمون أنه .. تغير قلب الرحيق وسيدق يوماً ما في أوصالهم شيئا فشيء بقدر ما اقترفوا من خيانةٍ وأطماعٍ بنا ، سيدق فيهم سماً رحيق أرضنا ، سيدفعون به ثمن المآسي سيدفعونها دموعاً وحسرةً وخسارة بقدر الميناء والنفط والأراضي ، وكل خيرات بلادي ، كما يدفع اليوم أهل الشمال ثمن ما فرحوا وهللوا وحللوا يوما قتلنا وذلنا