صلاح الحفناوي

احداث مصر

اعترافات حاج افتراضي في مصر

خذوا الحكمة من أفواه البسطاء الفقراء الذين ظلوا علي امتداد عقود وعقود وقوداً للمعاناة وكما مهملاً يعبث بأقداره الفاسدون والطغاة.. والذين هم لمن لا يعرف أو لمن يتظاهر بأنه لا يعرف.. أغلبية شعب مصر الأصيل النبيل الجميل.
هذه هي الحقيقة التي أكدتها لي محاورة مع أحد نجوم الشعب المصري الحقيقيين.. النجوم التي لا تتلألأ في الفضائيات ولا تعرف بريق الشهرة ولا تتهافت عليها برامج التوك شو التي تحولت الي سبوبة ثورية تستقطب من يطلقون علي أنفسهم وصف النخبة الواعية الفاهمة المثقفة.. أحد نجوم مصر الذين يرضون بالقليل ولا يحلمون بالمستحيل.
الحاج محمود سعد الله.. أحد الوجوه التائهة في الزحام.. تلتقيه مصادفة لو كنت ممن يملكون أجرة التاكسي وترفض امتحان امتهان الكرامة في معظم وسائل النقل العام.. وهو بالمناسبة لم يزر الأراضي المقدسة ولو من باب البحث عن فرصة عمل.. ولقب حاج اكتسبه بالأقدمية.. فهو يحلم بتأدية الفريضة منذ أكثر من 20 عاماً دون أن يتجاوز حدود الحلم.. دموعه التي كانت ولا تزال تكسو وجهه المتغضن بفعل الزمن والهم المزمن.. كلما شاهد الحجاج في يوم وقفة عرفات عبر شاشة التلفاز.. جعلت زملاء جلسة الشاي علي المقهي.. وهي المتعة الوحيدة التي يعرفها منذ بدأ رحلة الشقاء الطويلة التي لا تنتهي.. يؤكدون له أنه عند الله حاج لأن قلبه معلق بالحج ولا يمنعه عنه سوي قصر ذات اليد.. وهكذا أصبح حاجاً بلا حج تماماً كما هو إنسان لا يحظي بأي قدر من احترام إنسانيته والاعتراف بآدميته.
سألته عن أحلامه للمستقبل.. عما يريده بعد الثورة.. عن رأيه فيما يحدث في مصر الآن.. فنظر إليّ بغيظ لم يستطع اخفاءه رغم صداقة احتساء أكواب الشاي التي جمعتنا علي مقهي بالحي العشوائي الذي يسكن فيه.. قال: انا يا بيه نفسي أعيش.. نفسي آخذ نفسي.. أنا تعبت وفي رقبتي كوم لحم ولولا خوفي عليهم من الضياع لتمنيت الموت.
محمود.. الحاج الافتراضي استسلم للفضفضة.. قال إنه حاصل علي دبلوم الثانوي التجاري منذ سنوات.. كان هذا هو التعليم المتاح له وللكثيرين أمثاله ممن يريدون اختصار رحلة التعليم للحصول علي عمل ينقذ أسرهم من عذاب الفاقة.. وبعد معاناة يطول شرحها حصل علي وظيفة فراش في شركة خاصة بجنيهات قليلة لا تكفي لتوفير الخبز الحاف.. كان يعتمد علي مساعدات أهل الخير من موظفي الشركة الذين يعد لهم الشاي والقهوة ويشتري لهم حاجياتهم مقابل قروش يحمد الله عليها.. الحكاية طويلة وفصولها تصلح موضوعاً لمأساة درامية تروي فصولها دموع القهر والذل.. رحلة المعاناة قادت صاحب الحكاية إلي العمل فترة إضافية علي تاكسي من النوع الأسود القاتم الذي لا يعترف بالعداد وتخضع إيراداته لمساومات الزبائن.. وردية كاملة يومياً تستمر من الساعة الرابعة عصراً وحتي الثانية عشرة مساء يعود بعدها مهدوداً إلي بيته المكون من حجرة واحدة وصالة صغيرة في الطابق العاشر ببرج عشوائي لا يوجد به مصعد كهربائي في حارة اتساعها لا يتجاوز ثلاثة أمتار.. يسقط علي فراشه مجهداً ليصحو من آذان الفجر بادئاً يوماً جديداً.. في الشركة حتي الساعة الثالثة بعد الظهر ثم في التاكسي حتي الثانية عشرة مساء. . قال وهو يوجه إليّ نظرة تحد فهمت مغزاها فيما بعد: عايز تعرف أحلامي؟.. أنا بطلت أحلم من زمان.. أنا عايز حقي يابيه.. زوجتي ماتت بسرطان الثدي.. الدكتور الذي اكتشف حالتها طلب إجراء جراحة عاجلة.. من أين؟.. نصحنا بطلب العلاج علي نفقة الدولة.. وقبل أن نعرف طريق هذا النوع من العلاج كانت قد استراحت من معاناتها بالذهاب إلي بارئها.. هذا هو حلمي الأول ياسيدي أريد حقي في العلاج.. أريد أن أجد من يعاملني بشكل كريم عندما يفترسني المرض وابحث عن العلاج.. أريد أن اتوجه إلي أقرب مستشفي فيستقبلني الاطباء ويتعاملون معي بإنسانية ويقدمون لي العلاج دون مّن أو اذي أو اهمال أو احتقار.
قال الحاج الافتراضي: ابني الأكبر حصل قبل سنوات علي الابتدائية بتفوق.. ألحقته بمدرسة اعدادية مجاورة واستمر فيها حتي الصف الثالث الاعدادي لتبدأ الكارثة التي حولته من طالب علم إلي صبي في ورشة نجارة.. المصادفة وحدها جعلتني أكتشف انه فصل من المدرسة بسبب الغياب.. لم أتلق من مدرسته أي اخطار أو انذار.. أوسعته ضرباً فانهار وبدأ يحكي لي مأساته.. أحد مدرسيه كان يضربه ويهينه أمام زملائه كل يوم لأنه لم ينضم إلي المجموعة التي ينظمها في مركز خاص خارج المدرسة.. ولأنه يعلم أن ظروفنا لا تسمح هرب من المدرسة وفصل لسبب من الاسباب التي لا يعتبرها نظامنا التعليمي الموقر عذراً مقبولاً.. هل تريد أن تعرف حلمي الثاني: أريد أن يفرض علي باقي ابنائي نفس المصير.. أريد ألا يتعلموا بكرامة.. بلا دروس خصوصية لا أملك تكلفتها ولا إهانة من مدرس منعدم الضمير يحول حياتهم إلي جحيم ويطبق قانونه الخاص عليهم: التعليم مقابل الدفع.
قال وهو يستعد لاستكمال رحلة الاشغال الشاقة علي التاكسي الاسود الحالك: والله العظيم يا بيه احنا بس عايزين نعيش بكرامة.. هذا هو حلمنا الوحيد.. المستحيل.

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Sunday, January 15th, 2012 في 09:37

كلمات جريدة احداث: ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي