على جمجوم

احداث مصر

ثورة فى خزانة الكتب

أنشر هذا المقال الهام للمفكر المصرى الكبير الراحل الدكتور زكى نجيب محمود : “ثورة فى خزانة الكتب” : شاءت لى المصادفة البصيرة_والمصادفة قد لا تكون عمياء_أن أقرأ فى ليلة واحدة فكرتين فى كتابين مختلفين،لاعلاقة لاحداهما بالأخرى،ولكنهما_على ما بينهما من تفاوت بعيد_تعانقتا فى ذهنى،واتحدتا فتكون منهما اذدواج عجيب؛أما الأولى فهى أن آباءنا من المصريين الأقدمين كانوا ينسبون للأسماء المنقوشة على التماثيل والتوابيت قوى سحرية عجيبة،تكاد تدنيها من الأحياء؛فهم لم ينقشوا أسماء موتاهم على تلك الأصنام الحجرية للزخرفة والزركشة والزينة،بل ليكون لها فى جوف القبور قدرة أن تصيح للروح فتهتدى بصياحها الى الجسد الراقد لتسرى فيه الحياة من جديد.وأما الفكرة الثانية فكانت تعليقا لكاتب حديث على رأى فيلسوف قديم فى ارستقراطية العقل وحلولها محل ارستقراطية المال.اذ أراد أن يلقى بزمام الأمر فى الدولة الى من تثبت لهم الكفاءة العقلية وألا يخلى بين الأدنين فى قدرتهم الفكرية وبين مناصب الدولة العليا؛فليس أشد عبثا فى هذه الحياة من أن يحرص الانسان ما وسعه الحرص على أن يختار أحسن الحذائين للأصلاح حذائه،وأن ينتقى أحسن السائسين لتدريب جياده ثم لايعبأ بمن يتولى اصلاح دولته!فرغت من القراءة فأعدت الكتابين الى خزانة كتبى،وأويت الى مخدعى،فسرعان ما أستغرقنى نعاس دافىءجميل،ما كان أحلاه بعد يوم ملىء بالعمل والعناء،وسبحت فى عالم الرؤى فماذا رأيت؟رأيتنى حاكم فى دولة أصرف أمور شعبها،لعلها أن تكون أعجب ما شهدت الأرض من دول،ولعله أن يكون أعجب ما ظهر على وجه الدهر من شعوب! أما دولتى فمداها بناء ضخم ذو طبقات ثلاث،لم ألبث أن أتبين فيه خزانة الكتب ضخمت فى عالم الأحلام ثم ضخمت حتى أصبحت هذا البناء الفخم الجميل؛وأما رعيتى فكانت بضع مئات قليلة من أمساخ لاتطمئن لها عين،ما كدت أباشر شئونها حتى أدركت أنها كتبى قد أصابها فى أضغاث الأحلام هذا المسخ والتشويه؛فقد رأيتها كائنات حية ليست كالتى عهدت من كائنات،يتألف واحدها من لسان غليظ طويل فى فم ضخم بشع،ولكل منها جناحان بعضها يستطيع بهما الطيران وبعضها لايستطيع؛وأحسب أن اللسان قد غلظ فيها وطال،لأنها لم تصطنع من أول الدهر سوى بضاعة الكلام،فتطور عضو الكلام وضمرت سائر الأعضاء؛وأعجب مافيها أن خواطرها مكتوبة فى عقد من أوراق الشجر يتدلى من عنقها،بحيث تستطيع العين رؤيتها،وهى حين تتكلم تهز من صدرها تلك الخواطر المكتوبة هزا تتحول به من الكتابة الى الصياح.نظرتالى دولتى وقلبت الرأى فى رعيتى،فشاع فى نفسى الأسف والأسى لسوء حالها،وكاد يقعدنى اليأس عن محاولة اصلاحها فقد خيل الى أن فوضاها فوق كل اصلاح؛كانت دولتى مقسمة ثلاث طبقات،علياها تسكن الطابق الأعلى،ودنياها الأدنى،وأوساطها فى الوسيط؛وقد راعنى ذات يوم أن أرى أن أطيب ما تنتج البلاد من خيرات ينصرف الى الفئة العالية وهى لاتعمل،وأما الحثالة فالى الفئة التى تكدح وتشقى،وهى التى سفلت فى بناء الدولة حتى أستقرت فى قاعها،فقلت لنفسى : لاحييت بعد اليوم حاكما اذا أنا أغمضت العين على هذه النقائص والعيوب،ولن تذهب ثقافتى عبثا،فسأهتدى بآراء المصلحين جميعا،من مضى منهم ومن حضر،لأستأصل من جسم شعبى كل داء دفين.وآثرت قبل البدء فى الأصلاح أن أخالط رعيتى عن كثب وأحادثهم،لعلى أعلم كيف علا من علا،وسفل من سفل،فان فى ذلك لبداية وهداية.فصعدت لتوى الى الطابق الأعلى،فاذا فئة من شعبى تتقلب فى ألوان النعيم،أسدلت من دونها الستر لتتقى مر النسيم ولفحة الضوء،أجنحتها من المخمل وأوراقها المتدلية من الحرير،وقد خط عليها ما خط بماء الذهب،فأخذت أسأل هؤلاء واحدا بعد واحد:ماصنع حتى جاز له أن يصعد هذا المرتقى؟فأجاب أولهم:ان جواز صعوده هو ان أسمه المطبوع على صدره له رنين قوى اذا نطق به،وهو مكتوب بالخط الضخم العريض؛فعجبت له كيف يمكن أن يكون رنين الأسماء وضخامة الحروف من أسباب العلا!لكنه أجاب بأن تقاليد الدولة منذ عهد بعيد قد أباحت لمن يعلو صوته على سائر الأصوات أن يتسع صيته،فيأخذ من أمته مكانا عاليا ممتاذا،ولاعبرة بما فى صياحه هذا من خطأ أو صواب ثم سألنى:ألست ترى_ياصاحب الجلالة_مابين الصوت والصيت من علاقة فى اللفظ وأضاف قائلا:ان علاقة اللفظ عند الفلاسفة دليل على روابط المعنى..فسألت آخر،فأجاب بأن جواز صعوده هو أن جناحيه وما يتدلى على صدره من أوراق صنعت كلها من مادة جيدة مصقولة،فعجبت له كيف تكون نعومة الملمس جوازا للصعود!فقال:ان تقاليد الدولة منذ أقدم العصور تعنى بظواهر الأشياء دون بواطنها لأن فيلسوفا قديما علمهم أن الأنسان لايدرك من الأشياء غير الظواهر،وأما حقائق الأشياء فعلمها عند علام الغيوب.وسألت ثلثا،فقال:انه مطبوع فى بلاد الأنجليز،فعجبت له كيف يمكن أن يكون مكان الطباعة بذى شأن ،مادامت الأحرف هى الأحرف والكلام هو الكلام! فأجاب بأن تقاليد الدولة من أقدم عصورها تقضى أن يكون لذلك اعتبار عند قسمة الأقدار.وسألت رابعا،فقال:انه ينتمى فى نسبه الى كاتب مشهور معروف؛فعجبت كيف يمكن أن تكون النسبة وحدها كفيلا له بالصعود فأجاب بأن تقليد الدولة منذ فجر تاريخها قد جرت بأن يكون لأصحاب الأنساب فى الدولة أكبر الأنصاب.وسألت خامسا وسادسا وسابعا…هبطت السلم مسرعا لا ألوى على شىء،وأنا أوشك أن أصيح:كلا،لن يكون لمثل هذا العبث وجود فى دولتى بعد اليوم…ان شيخا فى الطابق الأسفل قيل أن به مسا من جنون قد جاءنى منذ أيام يقص على قصة الاصلاح الذى يريد لأمتى،فأعرضت عنه وتوليت،وما كان ينبغى أن أفعل،فما يدرينى؟ لعله يهدى،فما يفصل الجنون عن النبوغ الا حاجز رقيق؛وقصدت الى الشيخ حانقا مغضبا،فوجدته يروح ويغدو ولا يكاد يستقر به المكان،فناديته:ادن منى أيها الشيخ وأعد على سمعى ما قصصته بالأمس،فقال:أردت لأمتك الأصلاح_يا صاحب الجلالة_فما أعرتنى أذنا مصغية ولا قلبا واعيا والأمر هين لاعناء فيه:أريد أن تسود فى الدولة أرستقراطية العقل مكان أرستقراطية المال وغير المال من الأعراض التى لا تمت الى طبيعة الأنسان فى شىء؟ فهذا الفرد وهذا وذاك ممن تنطوى صدورهم على تفكير ناضج سليم وتتألف خواطرهم التى نقشت على صدورهم من فلسفة وعلم رصين،لهم من الدولة المكان الأعلى؛وهذا الفرد وهذا وذاك ممن تغلب عليهم العاطفة فينطقون بآيات من الشعر والنثر،لهم من الدولة المكان الأوسط،لأن العاطفة عندى فى منزلة دون العقل الخالص،ثم أحشر فى الطابق الأسفل من رعيتك أصحاب العقول الفارغة والصدور الخاوية،مهما يكن حظهم من ضخامة عنوان وجمال أوراق.فلم أجد فى فعل ما أشار به الشيخ شيئا من العسر،اذا أستثنيت بعض نظرات ملتهبة حادة رمقنى بها أفراد الطبقة الممتاذة حين أنزلتهم من الدولة أسفل سافلين.وأنتبذت بعد هذا الأنقلاب مكانا أستريح وأزهو،ولكنى لم أكد آخذ من الراحة نصيبا،حتى سمعت فى أرجاء الدولة ضجة وصياحا؛فهذا صوت شىء يتحطم،وتلك صرخة انسان يتألم،فسرت فى جسمى قشعريرة الخوف،وأرهفت الأذن فاذا بى أتبين كلمات تنبىء بثورة الشعب،فجمدت فى مكانى لا أريم حتى هدأت العاصفة،ثم طفت بأول الطوابق أول الأمر،فاذا بأصحاب الفكر وأرباب الأدب ممن أصابتهم الرفعة فى الأنقلاب الذى قمت به فى تنظيم الدولة،قد أعيدوا الى دركهم الأول،بعد أن تكسرت منهم أجنحة وقطعت ألسنة وتمزقت أوراق…فجلست محزونا واعتمدت رأسى على كفى،وتمتمت فى يأس: لم يأت بعد أوان الأصلاح لأمتى،فلا بد أن تنقضى قرون أخرى يعلو فيها أصحاب الظاهر البراق ويسفل أصحاب الحق المبين واستيقظت فاذا موعد العمل قد حان،فارتديت ثيابى مسروعا وهرولت الى العمل مسرعا لأرد عن نفسى عادية الأذى……..من كتاب أدب المقالة للدكتور زكى نجيب محمود_الطبعة الأولى_مكتبة الآداب_سنة 1947 .

اقرأ ايضاً صفحات رأي متعلقة على جريدة احداث اليوم:

اضيف بتاريخ: Friday, March 25th, 2011 في 09:39

كلمات جريدة احداث: , ,

اترك تعليقاًً على هذا الرأي